أبحاث

نحو صياغة إسلامية لنظرية العلم والتقنية

العدد 54

تمثل هذه الدراسة مدخلاً لتبادل الرأى والحوار البنًّاء حول أسس تكوين العقلية العلمية الإِسلامية المعاصرة وترشيدها عن طريق بلْورة نظرية عامة للعلم والتقنية فى إطار من التصور الإِسلامى المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وهذه القضية ليست بسيطة كما تبدو لأوّل وهلة, ولكنها متشعّبة الجوانب والفروع, وتحتاج, إلى إسهام وإبداع كل المهتمين بقضايا الفكر الإِسلامى, كلّ حسب تخصصه وعلى قدر طاقته.

مقـــدمـة :

كلمة ((العلم)) التى نعنيها فى هذه الدراسة تطبق مجازاً على ما يجب أن يسمى ((بالمعرفة العلمية)), ويقصد منها فى معناها العام أنها لفظ كلىّ لا يدل على علم محدد بالذات بقدر ما يعنى عدة خصائص أو صفات مشتركة فى كل نشاط عقلى إنسانى حين ينصرف بشكل منظم إلى محاولة وتفسير موضوعات معينة, تماماً كما تعنى كلمة ((إنسان)) عدة خصائص أو صفات تنطبق على بنى الإِنسان(1). ومن الطبيعى أن ينصبّ اهتمامنا فى الأساس على تلك العلوم الطبيعية والرياضية التى تتناول الظواهر الجزئية فى الطبيعة الحية والجامدة, وتدرسها بمناهج علمية لتضع لها قوانين تفسرها تفسيراً علّليا أو منطقياً. وتعتبر الفيزياء المعاصرة بفروعها المختلفة أعلى مراحل تطور العلم, من حيث المنهج والنظرية على حدّ سواء, ومن ثم يعوّل عليها كثيرا فى استخلاص الأمثلة والدلائل عند الحديث عن النموذج المثالى للعلم الطبيعى.

أما الدراسات الإِنسانية أو الاجتماعية التى تتناول أحوال الإِنسان منفرداً أو مجتمعا بغيره, فإنها عادة لا تندرج تحت العلوم الاستقرائية والاستنباطية إلا إذا استخدمت نفس مناهجها العلمية. لذلك نزعت بعض العلوم الإِنسانية ـــ كعلم النفس وعلم الاجتماع ـــ إلى محاكاة العلوم الطبيعية باصطناع مناهج تجريبية واستخدام أدوات وأجهزة للبحث فيه. يردّ البعض هذا الاتجاه إلى الارتقاء بالعلوم الإِنسانية ليصبح لها من النفع فى المجال العلمى وخدمة البشرية ما للعلوم الطبيعية والرياضية من سيادة وسيطرة على ظواهر الطبيعة التى تم اكتشافها, وذلك انطلاقا من الاعتقاد بأهمية المنهج التجريبى فى تقدم المعرفة العلمية(2).

وكلمة ((التقنية)) التى نقصدها هنا يراد بها ـــ بحكم الجزءين المكونين لكلمة ((تكنولوجيـا)) Technology ـــ ذلك العلم التطبيقى الصناعى الذى يتم تحصيله بواسطة الأجهزة العلمية, وهى تدل فى الأصل على مختلف طرائق المعالجة العلميـة فى الفنون عموماً, وفى البحث العلمى على وجـه الخصوص. وقــد شاع استخدامها حديثا لتجسد عملية تحويل القوانين والاكتشافات العلمية التى تحكم العالم الطبيعى والاجتماعى إلى منجزات واقعية يسخّرها الإِنسان لخدمة أغراضه ومصالحه(3). ومع دخول التقنية كواقع معاش فى حياتنا المعاصرة, وكمصطلح أساسى يتكرر على كل لسان, أصبح من الضرورى لأى باحث مدقق ألا يغفل عن طبيعة العلاقة الوثيقة المتبادلة بين أىًّ من العلوم الأساسية ومنتجاتها التطبيقية واستخداماتها العلمية, وذلك لأن التقنية الحديثة قد قدّمت لمجالات البحث العلمى من الأدوات والأجهزة ذات الكفاءة العالية ما أتاح الفرصة للحصول على بيانات ونتائج فائقة الدقة, وساعد على كشف وقائع ونظريات جديدة فى مختلف مجالات النشاط الإِنسانى. وكل هذا من شأنه أن يؤدى فى النهاية إلى نقطة حرجة يصعب عندها تفسير المعطيات العلمية الجديدة باستخدام المفاهيم والنظريات القديمة. ويتوقع المحلّلون لنتائج الأبحاث الجارية خلال العقدين الأخيرين, وخاصة فى مجال الفيزياء والرياضيات, أننا على موعد مع ثورة علمية هائلة يتهاوى تحت معاولها أساس الكثير من النظريات والمذاهب الوضعية السائدة, ويطرأ بسببها تحول كبير على وعى الإِنسان وتصوره لنفسه وللعالم(4) من هنا تظهر أهمية الدعوة إلى صياغة نظرية عامة للعلم والتقنية فى إطار من التصور الإِسلامى السليم, لكى تواكب حركة الصحوة الاسلامية المعاصرة وتكون إحدى مقوماتها الأساسية, انطلاقاً من حقيقة أن المنهج العلمى الإِسلامى سيكون هو الأقدر على تهيئة الإِنسان لكل ما يمكن أن تسفر عنه الثورة العلمية والتقنية المرتقبة فى المستقبل القريب أو البعيد.

أسس التفكير فى نظرية جديدة للعلم والتقنية

ولا شك أن موضوعات هذه القضية كثيرة ومتشعبة, وتحتاج إلى جهود المخلصين من ذوى التخصصات المختلفة بإجراء دراسات تفصيلية متأنية وفق منهج علمى تحليلى مقارن. وسوف نعرض فى هذه الدراسة بشىء من التفصيل لما نراه مدخلاً علميا أساسيا لهذه القضية, وذلك على النحو التالى :ـــ

أولا : إيضاح أخمية أن تكون هناك نظرية للعلم من خلال تصحيح المفهوم الشائع لدى كثير من فلاسفة العلم حول هذه النظرية والتحليل التاريخى لنشأتها ومراحل تطورها.

ثانيا : توصيف الواقع العلمى والتقنى المعاصر بإلقاء بعض الضوء على أهم مجالات البحث العلمى التى تنبىء بميلاد نظريات علمية جديدة على أنقاض النظريات والمفاهيم السائدة.

ثالثا : محاولة تحديد ملامح الثورة العلمية والتقنية المرتقبة وأثرها المباشر على الإِنسان.

رابعا : تقــديم تصور عام عم أهم الخصائص المميزة لنظرية إسلامية فى المعرفة والتقنية تسهم فى بناء نموذج أو نماذج معاصرة للحياة وللتنمية والتقدم فى إطار الفكر الإِسلامى وطبقا لمبادىء الإِسلام.

أولا التطور التاريخى لمفهوم نظرية العلم :

كان الفيلسوف الألمانى يوحنّا فشته (1762 ـــ 1814) هو أول من أدخل مصطلح (( نظرية العلم )) Theory of science, وأراد به أن الفلسفة نسق من المعرفة يحيط بما للعلوم من مبادىء ومناهج دون النظر إلى فحوها أو نتائجها. وقد لخص أهمية نظرية المعرفة عموماً فى أنها تهتم بجلاء كيفية صدور صور الأشياء عن الفكر(5). ومع مطلع هذا القرن دخل العلم مرحلة جديدة من تطوره بظهور نظريات العلوم الذرية الخاصة بدراسة عالم اللامتناهيات فى الصغر (مثل نظرية الكم للعالم الألمانى ماكس بلانك ونظرية عدم اليقين لهيزنبرج ), كما ظهرت النظرية النسبية لأينشتين وبدا أثرها واضحا فى عالم اللامتناهيات فى الكبر. واضطر فلاسفة العلم إلى أخذ جانب الحذر من مبدأ الحتمية المطلقة المستمد من قوانين الميكاميكا الكلاسيكية والجاذبية لإِسحق نيوتن, واختفى المثل الأعلى لكون يخضع مساره لهذه القوانين, ويدور بطريقة يمكن للعقل الإِنسانى أن يحددهـا مقدما مثلما تدور عقارب الساعة المضبوطة. كما اختفت نظرية المثل الأعلى للعلماء الذين يعرفون الحقيقة المطلقة. وكان طبيعيا أن يتغير مع كل هذا مفهوم العلم الذى حــدده فشته, فظهر مصطلح (( نظرية المعرفة العلمية )) أو (( إبستمولوجيا العلم ) Epistemology of science , وأصبحت مهمة هذه النظرية فحص وتحليل المعرفة العلمية للعالم الخارجى ونقدها على المستويين الاستقرائى والاستنباطى, بالإِضافة إلى تقديم إجابات على الأسئلة المطروحة فى الساحة الفكرية آنذاك حول العلاقة بين الذات والموضوع فى إطار المعرفة العلمية, وكيفية مقارنة النظريات العلمية معرفيا ببعضها البعض على المستويين التحليلى والتركيبى, وإمكانية تبيّن التطور المعرفى أو الابستمولوجى الذى يطرأ على المفاهيم العلمية(6).

ولم تكد تمض بضعة عقود على بداية هذا القرن حتى قامت ثورة صناعية هائلة تمثلت فى إقامة المصانع الآلية لتحويل المواد الخام إلى منتجات بكميات كبيرة, وصاحب قيام هذه الثورة الصناعية ثورة تقنية دخلت بالعلوم فى أكناف منهج جديد. وأمام مطالب الدولة والمجتمع, وإلحاح الإِنتاج الاقتصادى والسباق الحربى, بدأ الإِحساس بالقلق والتوتر فى الزحف إلى واقع الحياة. ولم يعد البحث العلمى يجرى وفق خطط العلماء أنفسهم هادئا متأنيا, لكنه أصبح سلاحاً تنفق عليه الدول فى سعة, فارضة عليه إيجاد حلول لمشكلاتها فى الإِنتاج والحرب. وانبهر الناس بالاكتشافات العلمية التى لم تكن تخطر لهم على بال, حتى وصل بهم الحال فى العصر الحاضر إلى اصطناع فلسفات علمية تضع الفلسفة تحت وصاية العلم عند المرحلة التى بلغها من تطوره, وانشغلوا تماماً بقضايا تطبيق العلم وتقنيته فى خدمة مصالحهم الذاتية. ونشأت مفارقة حادة تواجه الناس اليوم مؤداها أن العلم أصبح قادراً على تغيير العالم بسرعة تفوق فهمهم لما يفعلون. ذلك لأن العلم لم يعد نشاطا منزويا تمارسه فئة قليلة من البشر, بل أصبح مؤسسة اجتماعية متعددة الفروع  تخدم مصالح الدولة والأفراد بصورة مباشرة, وغدا جزءاً متكاملا من أجهزة الإِنتلج فى الصناعة والزراعة وشئون الحكم والإِدارة, كما أصبحت مناهجه وأفكاره هى الصورة السائدة للفكر والعمل فى زماننا. وإذا كان العلم قد قرب المسافات بين البشر بحيث استطاعوا أن يتبادلوا التأثير والتأثر, فإن هذه التقارب نفسه قد أدى إما إلى إحكام الصلة بين البشر, وإما إلى حملهم على مواجهة بعضهم بعضا, فأصبح خطر الحرب محلقا فوق الرءوس, وخاصة بعد انقسام العالم إلى كتل ودوائر ومعسكرات ذات أيدلوجيات وفلسفات متعادية(7).

وكان منطقيا أن يؤدى تطور العلوم وتقنيتها إلى تغير فى المفاهيم العلمية بطريقة لا يمكن لأى فلسفة أن تتجاهلها, كما أدى إلى تزايد هائل فى الحصول على المعارف والمعلومات التى فاقت غزارتها خلال العقدين الأخيرين مجموع ما أحرزته البشرية فى تاريخها المعروف كله, وأصبح نسيح الحياة المعاصرة على درجة عاليه من التعقيد والتشابك, بحيث لا يوجد مجال من مجالات النشاط الإِنسانى إلا ويحاول الباحثون تحسينه والإِسراع بإيقاع حركته. ومن الطبيعى أن تتشعب القضايا المتعلقة بصناعة العلم فى ظل هذه الصورة المركبة لقوة التأثير بين العلم والإِنسان والمجتمع, فنشأ نتيجة لهذا تنظير جديد يسمى (( علم العلم )) Science of Science. وهو مبحث يقوم فى رأى كارناب (1891 ـــ 1870) على تحليل لغة العلم(8), ولكنه يتعدى هذا النطاق فى رأى آخرين(9) ليشمل جوانب أخرى لا يمكن للعلم أن ينسلخ عنها هى :

( أ ) أنطولوجيا العلم : وتعنى البحث فى كشف طبيعة الوجود اللامادى فى القضايا الميتافيزيقية المترتبة على التصورات أو المفاهيم والقوانين العلمية, مثل المادة والطاقة والزمان والمكان والكم والكيف والعلة والقانون وغيرها. فمثل هذه المفاهيم تشكل وحدات أساسية فى نسيج المعرفة العلمية, بالإِضافة إلى أنها تدخل فى رسم الصورة التى يتخيلها الإِنسان عن السكون وفوق ما ترتضيه هويته الثقافية ونزعته الفلسفية أو الدينية.

( ب ) أبستمولوجيا العلم : وتعنى البحث فى نظرية العلم من حيث إمكان المعرفة العلمية ومصادرها وطبيعتها. فالبحث فى إمكان المعرفة يتضمن النظر فى إمكان العلم بالوجود أو العجز عن معرفته, وفيما إذا كان غى وسع الإِنسان عن طريق العلوم المختلفة أن يدرك الحقائق اليقينية وأن يطمئن إلى صدق إدراكه وصحة معلوماته, أم أن قدرته على معرفة الأشياء مثار للشك وعدم اليقين. والبحث فى مصادر المعرفة يتعرض للنظر فى منابعها وأدواتها المتمثلة فى العقل والحس والحدس وغيرها, وكذا للنظر فى أنواع المناهج العلمية المستخدمة لوسائل المعرفة ومدى مقدرتها على ضمان سلامة التحصيل المعرفى. أما البحث فى طبيعة المعرفة العلمية فيمس حقيقتها وقيمتها وحدودها بين الاحتمال واليقين, وكذا ماهية العلاقة بين الباحث وموضوعات بحثه فى مختلف العلوم.

( جـ ) اكسيولوجيا العلم : وهى ما يعرض للبحث فى القيم والمثل العليا ومدى ارتباطها بالعلم وخصائص التفكير العلمى, باعتبار المعرفة العلمية واحدة من أهم فاعليات النشاط الإِنسانى وأرقاها. إن كثيرين من العلماء والمفكرين يتوقون إلى الانفلات من النظام المحكم الصارم القائم على العلم الواقعى لكى يستشعروا نشوة التأمل فى النواحى الجمالية والجوانب الإِنسانية المتعلقة بقيم الحق والخير. ولذا نرى أن كتب التأمل التى يكتبها العلماء بعد كل كشف علمى تحظى باهتمام كبير, ولا نعجب من قول أينشتين بأنه أفاد من الروائى الروسى (( دستويفسكى )) بأكثر مما أفاد من العالم الرياضى (( جاوس )).

كما أن الاطلاع على الفيزياء المعاصرة مثلا يسوَّغ, من ناحية أخرى, الإِعراب عن آراء لا تقتصر على موضوع بناء المادة وعلاقتها بالطاقة وحسب, بل تعدوها إلى طبيعة الحياة ووجود الإِرادة الحرة وغيرهما.

( د ) سيكولوجية العلم : التى تبحث فى العمليات النفسية والعقلية التى تتعلق بالكشف العلمى, وما يقترن بها من القدرات الإِبداعية والخيالية المواجهة لحل المشكلات العلمية. فالكشوف العلمية تأتى فى المقام الأول تأملات عقلية يوشّيها الخيال العلمى السليم, ثم تخضع بعد ذلك لمنهج التحليل والتحقيق. والمسائل العلمية لها أصول عميقة فى الوعى البشرى, وقد تصعب أحيانا على مستوى التحليل, ولكنها سرعان ما تبدو للغباقرة فيلتقطوها بالحدس أو البداهة, ثم يفرغوها فى نظريات علمية تتطور مع الزمن شيئا فشيئا.

( هـ ) سوسيولوجية العلم : وتهنى بالبحث فى التفسير الاجتماعى لتطور النظريات العلمية ومدى تقبل المجتمع لها, بالإِشارة إلى أسلوب التنظير العلمى ونمطه الذى يعكس الصبغة السائدة فى مجتمع ما. وهنا يأتى دور المعايير الثقافية والقيم السلوكية والعقائدية فى التأثير على تحديد الاتجاهات العقلية, ومن بينها التفكير العلمى والفلسفى. وما حدث لجاليليو وغيره من هلماء أوروبا يدل على أن حالة الثقافة السائدة فى زمن ما ومكان ما يمكن أن تكون عقبة تحول دون صياغة الفروض التى تؤدى مباشرة إلى توجيه ملاحظات وإجراء تجارب تدور حول وقائع قد سبق تحديدها تحديداً يجعل منها علماً. وهنا أيضا تبرز أهمية الربية السليمة فى بناء المزاج العلمى للمجتمع وتكوين الثقافة العلمية المتكاملة والارتقاء بالذوق العلمى العام, لما لها من أثر بالغ فى تحديد الاتجاهات العقلية.

( و ) تاريخ العلم : ويعنى بوصف وتقويم حركة العلم عبر مراحله التاريخية المتعاقبة للوقوف على عوامل تقدمه أو تعثره من وجهات نظر متعددة. ويتميز تاريخ العلوم عن تاريخ الأحداث الماضية للأشخاص والحضارات بأنه يتكون دائما من حقائق قابلة للتحقيق والاختيار والاستنتاج إذا ما توفرت لها نفس الظروف أو اتبع فى استنتاجها نفس الأسلوب. وسرد هذه الحقائق تحكمة نظرة انتقائية منظمة لها وفقا لمحور أساسىّ يضمها ويجذبها إلى مسار له اتجاهه الخاص, ذلك لأن الحقائق العلمية ليست كلها على درة متكافئة من الأهمية والدلالة عندما يتناولها المؤرخ بالتحليل والتفسير فى أى عصر من العصور, ومن هنا تتضح أهمية تاريخ العلم فى صياغة نظريته العامة, حيث يستحيل انفصال العلم عن تاريخه باعتباره عملية ممتدة خلال الزمان, وإذا ما ران على العلم جهل بتاريخه, فإنه لا محالة مخفق فى مهمته.

وأما هذه الأركان الستة لنظرية العلم الحديثة التى يقوم عليها (( علم العلم )) يسعى المنظرون من العلماء والفلاسفة إلى الربط بينهما بمنظور شامل يحدد للعلم مكانته الخاصة بين سائر الفاعليات الإِنسانية. وبطبيعة الحال تختلف طرائق التناول باختلاف المذاهب الفلسفية ووجهات النظر المطروحة فى ساحة الفكر المعاصر. ويطمح كل فريق إلى أن يجعل من تصوّره أساساً لإِيمان اجتماعى جديد يكون بمثابة دين إنسانى يهدى إلى حقيقة شاملة كاملة, ويتوزع الناس بين هذه التصورات والفلسفات التى هى أقرب إلى الفكر السليم والسلوك السوى. لكن هذه الفلسفات الوضعية تظل دائما عرضة لاستبدال الآراء الحاضرة بغيرها, وترتعد فرائص أصحابها كلما لاح فى سماء العلم كشف ثورى جديد(10).

ثانيا : توصيف الواقع العلمى والتقنى المعاصر :

إن الصورة الراهنة للواقع العلمى والتقنى ليست من البساطة بحيث يسهل على باحث واحد تحليلها فى دارسة واحدة. ذلك لأنها فى أحد جوانبها مثلا تمتد من أصغر الجسيمات الأولية فى عالم الذرة ونواتها إلى أكبر المجرات الكونية فى عالم الفضاء اللامتناهى. ويكاد يمتزج البحث فى هذه المجالات بميادين أخرى على نفس المستوى من الخطورة والأهمية تشمل تقنيات الحاسب الآلى والذكاء الاصطناعى والهندسة الوراثية والاتصالات والطاقة وسباق التسلح فى الميادين البيولوجية والكيميائية والنووية وغيرها. ولا شك أن الإِدراك الواعى لطبيعة التطورات التى تحدث فى كل هذه الميادين, لالإِضافة إلى الفهم الدقيق لمختلف الاتجاهات الإِيجابية والسلبية الكامنة فى كل ما يجرى الآن من أبحاث ودراسات علمية وتقنية, من شأنه أن يساعد على إجراء تقويم موضوعى لتلك الفجوة المتسعة بين عالمين يعيشان على أرض واحدة : عالم المتقدمين من وراء الفضاء والذرة والخلية الحية والكمبيوتر, وعالم المتخلفين ممن يعيشون على ما ينتجه الغير ويكتفون بالإِعجاب أو الخوف مما يجرى حولهم. كما أن التوصيف الأمين لهذا الواقع العلمى والتقنى يعتبر ـــ فى رأينا ـــ مقدمة ضرورية لأية نظرية أو خطة علمية تهدف إلى الخروج من مستنقع التخلف والانحطاط وتسهم فى إعداد عقليات علمية قادرة على المشاركة الفعالة فى ميادين الابتكار والإِبداع.

ومن المفيد أن نسوق بعض الأمثلة الإِيضاحية من العلوم المعاصره التى تنبىء نتائج أبحاثها الحديثة بظهور تصدع ملحوظ فى بعض النظريات العلمية الشهيرة أو فى الأنظمة الفلسفية القائمة عليها, بحيث لم تصبح قادرة على تقديم تفسيرات شافية لسلوك بعض الظواهر العلمية المستحدثة وما يتعلق بها من مفاهيم جديدة :

المثال الأول : نستقيه من الأبحاث التى يجريها علماء الفيزياء بمختبرات المركز الأوروبى اابحوث النووية (( سيرن )) CERN باستخدام مُسرّعات الجسيمات الأولية(11).

فقد أثبتت التجارب أن الجسيمات الأولية إذا ما اكتسبت سرعات عالية جدا فإن التصادم الناشىء يكون ذا طاقة فائقة تسمح بحدوث تفاعلات بين الجسيمات الأولية, وينتج عن ذلك تبقى بعد تولدها لفتره زمنية محددة فى حيز الوجود, ثم لا تلبث أن تندثر بالتحلل إلى جسيمات أخرى. وقد أطلق على أحد هذه الجسيمات اسم (( الميون )) Muon, وهى بالطبع جسيمات قصيرة العمر, ولوحظ بالتجربة أن فترة دوامها التى تسبق تحللها إلى الكترونات ونيوترونات تعتمد على سرعة تحركها. فالميون الأكثر سرعة يعيش زمنا أطول قبل أن يتلاشى, والعكس بالعكس. وهذه الحقيقية المؤكدة علميا تتفق مع النظرية النسبية لأينشتين, وإن كان يصعب على العقل تصديقها(12). إنها نوع جديد من الميتافيزيقا الفيزيائية التى لم تتوقع أى من الفلسفات الوضعية, حتى وإن كان العلم منهجها. ولنا أن نتخيل مبلغ الحيرة التى تنتاب هذه الفلسفات عندما يطلب منها أن تستخدم القياس أو المماثلة للربط بين هذا الأمر وبين عمر الإِنسان مثلا. إنه بلا شك أحد مظاهر عجز الفلاسفة عن بناء أنساق سليمة على أساس الأفكار الجديدة لأينشتين ومن تلاه نت الفيزيائيين والرياضيين, على الرغم من أنهم ـــ الفلاسفة ـــ يعتبرون موضوع الزمان والمكان فى صميم اهتماماتهم(13).

المثال الثانى : يتعلق بقضية توحيد القوى الطبيعية الذى كان أحد أحلام أينشتين أثناء عمله فى نطاق النظرية النسبية العامة. فمن المعروف أن هناك أربع قوى تعمل داخل قوى نواة الذرة هى : قوة الجاذبية التى تعمل بين الأجسام المادية, والقوة الكهرومغناطيسية التى تعمل بين الجسيمات المشحونة, والقوة النووية الشديدة التى تعمل على تماسك نواة الذرة, والقوة النووية الضعيفة التى أحد مظاهرها انبعاث أشعة بيتا من النواة. وهناك بالطبع اختلافات جوهرية بين هذه القوى من حيث شدة تأثيرها ضمن مدى فعلها(14).

وقد عكف العلماء الثلاثة (عبد السلام ـــ وينبرج ـــ جلاشو) على دراسة هذه القضية ونجحو جزئيا فى القوتين الكهربية والنووية الضعيفة(15). ويواصل العلماء الآن بحوثهم لاستكمال عملية التوحيد بين القوى الأربع, فهم يدرسون احتمال أن تكون أبعاد حيز الفضاء والزمن أحد عشر وليست أربعة فقط كما يقول أينشتين, ويأملون فى هذا النطاق أن يتم توحيد القوة الكهربية الضعيفة مع القوتين الأساسيتين الأخريين وهما قوة الجاذبية والقوة النووية الشدية. وحسب تفكيرهم يكون الانحناء الهندسى لأبعاد أينشتين الأربعة هو المحدد لحجم الكون وفترة بقائه, أما الانحناء الهندسى للأبعاد السبعة المتبقية فيرتبط بظهور الشحنات الكهربية والشحنات الناقلة للقوه النووية.

وهكذا نرى مؤشرات تصدع نظرية الأبعاد ومحاولات ترميم بنائها بأحد عشر ركنا ( أو بعداً ). لكن ما مدى صحة هذه الافتراضات الجديدة ؟ وما سرّ هذا العد من الأبعاد الإِضافية ؟ وهل هناك احتمال لأن يزيد فى المستقبل أم أن الفكرة سوف تنهار من أساسها ؟ .. وبينما يحاول العلماء الآن وضع إجابات وحلول لهذه المشكلات طلع عليهم بحث جديد أحدث ضجة بين جمهور العلماء عموما, والفيزيائيين منهم على وجه الخصوص, لكن البحث الجديد لم يصف هذه المرة بعداً جديداً لقياس حيز الزمان والمكان, بل أضاف قوة أساسية خامسة إلى القوى الأربع الأصلية التى تعارفنا عليها منذ زمن طويل. وقيل عن هذه القوة أنها ذات طبيعة تنافرية ضعيفة وأن مداها الفعال هو بضع مئات من الأمتار, وأن شدتها لا تتوقف على كتلة الجسمين المتفاعلين أو سحنتهما, وإنما على خصيصة تتغير بتغير التركيب الكيميائى وهى عدد ((الباريونات)) Baryons الكلى ( أى البروتونات والنيوترونات ) فى وجدة الكتلة(16). وإذا كان هناك من يصف هذه النظرية بأنها عمل يثير الإِعجاب, فإن هناك أيضا من ينتظر الدليل القاطع على صحتها بالتجربة والبرهان .. ولكنها بكل تأكيد عملت على زعزعة أفكار كان يُظن أنها ثابتة. حتى عهد قريب(17).

المثال الثالث : نسوقه من علم الكون Cosmology لنوضح كيف أن العلوم المعاصرة تتناول من القضايا بالبحث النظرى والعملى ما كان يوماً ما يعتبر من خرافات الميتافيزيقا. فقد تزايد الآن عدد الباحثين فى الفيزياء الفلكية الذين يعتقدون بأن كثافة المادة والطاقة فى الكون هى على صورة معينة بحيث أن كتلة الكون فى مجموعها لابد وأن تساوى صفراً على وجه التحديد. وكتلة الكون تعتبر من المعطيات الفيزيائية التى يمكن تحديدها عن طريق القياس العلمى التجريبى, فإذا كان مقدارها يساوى الصفر فعلا, فإن الكون عندئذ يشارك حالة الفراغ التام فى خاصية (( انعدام الكتلة )). وقد ظهرت حديثا نظرية جريئة تنطلق من هذه الفرضيات لتعتبر الكون على صورة تقلبات كمية Quantum Fluctuations حول الفراغ, وهى حالة من الاشيئية فى الزمان والمكان خلقت من العدم. ومرة أخرى نحتكم إلى التجربة فى إحدى مسائل ما وراء الطبيعة, فعن طريق قياس كثافة المادة فى الفراغ يمكن لنا أن نعرف مدى صحة هذه النظرية, علماً بأننا نعتبر حاليا أن كثافة مادة الكون تساوى مقداراً ثابتا متناهيا فى الصغر (10 — 31 جم / سم3)(17).

المثال الرابع : يتعرض من زاوية أخرىلقضية أصل الكون تقضى بأن المجرّات تُدفع متباعدة عن بعضها فى جميع الاتجاهات, محمولة بنسيج زمكانى يكبر بانتظام. وبات واضحاً أن الكون يتمدد. ومنذ عهد قريب اتضح أن المجرات ليست ساكنه بالنسبة لهذا النسيج المنتشر, فهى تقوم بحركات خاصة تساعدنا فى النفاذ إلى بنية الكون ومعرفة مدى التقلبات فى كثافة مادته. وما تمت معرفته عن هذه الحركات يوحى بأن المادة تتكتل مع بعضها بمقاييس كبيرة لا يمكن تصورها, فتعطينا صورة عن الأحداث التى جرت فى بواكير نشوء الكون, وقد تجيب هذه الحركات أيضا عن سؤال حول النهاية الأخرى للزمن : فهل سيستمر تمدد الكون ؟ أم أن قوة الجاذبية سوف توقف هذا التمدد فى نهاية المطاف, أو حتى تعكسه بحيث ينهار الكون ثانية ويعود إلى كثافته الأولية ؟ لهذا ينهمك الباحثون الآن فى رسم نموذج للجريان الكونى. باستخدام التقنيات, وقد ظهر لهم بالفعل من النتائج والبيانات ما يجعلهم يتعاملون مع النظريات السائدة حاليا بحذر شديد(18).

يتضح من هذه الأمثلة التى ذكرناها من بعض فروع العلم المعاصر أننا نعيش مرحلة جديدة من التفكير العلمى والتقنى المرتبط بمفاهيم ميتافيزيقية أحيانا مثل الحكم فى عمر الأجسام المتحركة عن طريق سرعاتها, والحديث عن الأبعاد الخفية للزمان والمكان, وفكرة الخلق من العدم وحقيقة تمدد الكون وغيرها(19). وإذا كانت هذه الموضوعات تبدو مشابهة لموضوعات ما وراء الطبيعة فى الفلسفات الوضعية, إلا أنها تنتظر طويلا فى حالتها الصورية حتى تأتى إلى مرحلة التحقيق التجريبى الذى يؤيد صحتها أو يدحضها من أساسها. ترى ما هى مواقف المذاهب الفلسفية المختلفة من كل هذه التغيرات ؟!

ثالثا : ملامح الثورة العلمية والتقنية المرتقبة :

يتوقع المحللون لواقع العالم المعاصر علميا وتقنيا أن الوجه المادى لهذا العالم سوف يتغير مع بدايات القرن الحادى والعشرين, وسوف يتقدم العالم فى السنوات التى تلى ذلك بمعدلات أسّية لا نهائية, ويعرف هذا العصر المرتقب بأنه عصر صناعة المعرفة التى تمثل الثروة الجديدة للأمم المختلفة, كما ينتظر أن تلعب التقنية دوراً خطيراً فى تغيير أنماط الحياة والسلوك والقيم. وبفضل خلايا الوقود الكيميائى يمكن صنع سيارات كهربائية تقطع مسافات طويلة دون حاجة إلى إعادة الشحن بالكهربية, وبفضل المواد فائقة القدرة على التوصيل الكهربى ستتغير أساليب توليد الكهرباء ونقلها, وبفضل تكنولوجيا الوقود الاصطناعى سوف يمكن التغلب على مشكلات مفاعل الاندماج النووى واستخدام مصادر نظيفة للطاقة. وبفضل التكنولوجيا الحيوية ستوجد أساليب من شأنها القضاء على الكثير من الأمراض التى يعانى منها الإِنسان, واكتشاف سلالات جديدة من المحاصيل تدرّ غلّة أكثر بتحقيق أقصى استفادة من أشعة الشمس. ومما لا شك فيه أن الثورة العلمية والتقنية المرتقبة سوف تعتمد بدورها على ثورلت متصلة تحدث ى الحاسبات الألكترونية (الكومبيوتر) ولقد بدأت بعض الدول تخطط للذكاء الاصطناعى باختراع حاسبات يكون فى وسعها أن تفكر تفكيرا خلاقا مبدعاً إلى جانب إجراء الحسابات المعقدة(20).

من ناحية أخرى, هناك الكثير من التجارب التى تجرى فى مختلف فروع العلم بأحدث الوسائل التقنية, وتحتاج هذه التجارب عدة سنوات لكى يظهر تأثير نتائجها على كثير من النظريات والمفاهيم العلمية السائدة. وربما يكون من المفيد فى هذا الشأن أن نعرض بإيجاز لإِحدى هذه التجارب على سبيل المثال, وهى تجربة قياس بعد القمر عن الأرض المعروفة باسم LURE (21). بدأ تنفيذ هذه التجربة فى 20 يوليو عام 1969 مع أولى خطوات الإِنسان على القمر فى إحدى رحلات سفينة الفضاء أبللو 11, وذلك عندما قام رواد الفضاء على هذه السفينة بوضع جهاز يحوى مائة مرأة صغيرة لكى تعكس نبضات أشعة الليزر الموجهة إليها من محطات أرضية فى أماكن مختلفة فوق قارات الأرض. ويقوم الفريق العلمى القائم على هذه التجربة بمتابعة تسجيل ودراسة بعد القمر عن الأرض على مدى عدة سنوات لمعرفة مدى تغير هذه المسافة بمرور الشهور والأعوام. وهذا من شأنه أن يساعد على تفسير الكثير من المسائل المتعلقة بحركة كل من الأرض والقمر والتوزيع الكتلى لمادتيهما وبنظرية تزحزح القارات وبنظريات الجاذبية وغيرها. وقد بدأت التحاليل العلمية لهذه التجربة تؤتى بالفعل ثمارها, ويوالى الباحثون جهودهم لتحسين ظروف القياس بصورة مستمرة.

رابعا : الخصائص العامة إسيلامية فى العالم والتقنية :

استعرضنا فى الأجزاء السابقة من هذه الدراسة أهم الأسس ـــ فى نظرنا ـــ التى يقوم عليها التفكير فى صياغة نظرية عامة للمعرفة العلمية والتقنية .. وعندما تكون النظرية المنشودة واقعية إسلامية فإنه يلزم صياغتها فى إطار من التصور الإِسلامى السليم المستمد من القرآن الكريم والسنة الشريفة, والجامع لأصول التراث وروح المعاصرة. هذا هو الاساس الذى يجب أن تنطلق منه العقلية الإِسلامية بوجه عام, امتثالا للأمر الإِلهى الذى بدأت به رسالة الدين الخاتم فى قوله تعالى : } اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإِنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإِنسان ما لم يعلم { (العلق : 1 ـــ 5). إذ لا يمكن أن تبدأ آخر الرسالات السماوية لبنى آدم على هذه الأرض بهذا الأمر الإِلهى إلا إذا اتسعت دائرة دلالته اللفظية وامتدت لتشمل كل ما يأتيه الإِنسان فى الجانب الإِيجابى, مجرداً فى الأسباب والغايات لله الخالق سبحانه وتعالى(22). أما تفصيل ذلك من جميع جوانبه فقد جاء فى الدستور الإِلهى : } كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير { (هود : 1). وإطلاق هذا المعنى الشمولى لكلمة ((اقرأ)) وعلاقتها بالنص القرآنى على هذا النحو هو ما يجب الأخذ به, وخاصة إذا ما سلمنا بحقيقة أن الإِعجاز القرآنى يمنح الألفاظ العربية عمقا وامتداداً فى المدلولى والمعنى, ويكسب المفرادات اللغوية مرونة وصلاحية للتعبير عن مختلف المعانى الطارئة فى حياة الناس. فالمعنى القرآنى لا تهائى, والفهم البشرى محدود, ولكنه مستمر بتتابع الأجيال(23).

والأخذ بالمنهج الإِسلامى فى العلم والمعرفة يجب أن يُقبل على أنه حقيقة منطقية وضرورة واقعية لكل عصر من العصور, منذ نزول رسالة الإِسلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. فهذا من الناحية التراثية يتفق مع ما ثبت من أن المسلك الذى اتبعه علماء الأصول وعلماء الحديث فى الوصول إلى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال قد انسحب على أسلوب التفكير والتجريب فى البحث العلمى. ومن ثم لم يكن غريبا أن نقرأ فى كتب التراث العلمى للحضارة الإِسلامية تعبيرات أصول الفقه وطرائقها. فنرى الحسن بن الهيثم ـــ على سبيل ــ المثال ـــ يستعمل الاستقراء وقياس الشبه فى شرحه لتفسير عملية الإِبصار وإدراك المرئيات حيث يقول : (( لا يتم الإِدراك إلا بتشبيه صورة المبصر بصورة قد أدركها المبصر من قبل. ثم إدراك التشابه بين الصورتين, ولا يدرك التشابه بين الصورتين إلا بقياس )). كما نراه يستعمل لفظ الاعتبار (وهو قرآنى) ليدل على الاستقرار التجريبى أو الاستنباط العقلى(24).

أما من جهة المعاصرة فإن الصياغة الإِسلامية لنظرية فى العلم ةالتقنية تخلع على هذه النظرية من خصائص الإِسلام ما يجعلها عالمية وصالحة لكل زمان ومكان. وإدراك المسلمين الأوائل لهذه الحقيقة على هذا النحو هو السبب الأول لتقدمهم ورقيهم بعد أو وجدوا فى مبادىء الإِسلام كل مقومات الازدهار العالمى والحضارى, وعثروا على أصول المنهج العلمى السليم(25). وعندما انتقلت العلوم الإِسلامية إلى أولاوبا, فطن علماؤها إلى سرّ تقدم المسلمين ودعوا إلى اتباع منهجهم بعد أن وجدوه سمة العلوم فى الحضارة الإِسلامية, وقال روجير بيكون : (( إنه باتباع المنهج التجريبى الذى كان له الفضل فى تقدم العرب, فإنه يصبح بالإِمكان اختراع آلات جديدة تيسر التفوق عليهم …. ففى الإِمكان إيجاد آلات تمخر عباب البحر دون مجداف يحركها, وصنع عربات تتحرك بدون دواب الجرّ, وإيجاد آلات طائرة يستطيع المرء أن يجلس فيها ويدير شيئا تخفق به أجنحة الطير ))(26).

بالإِضافة إلى هذا, فإن الصياغة الإِسلامية لنظرية فى العلم والتقنية لا تقتصر خصائصها على ضمان مواصلة التقدم القائم على المنهج العلمى السليم, لكنها تمنح للباحث من الأسباب والمقومات التى يقضى بها المنهج الإِسلامى فى البحث والتفكير يأتى الإِيمان الخالص الذى يجعل العقل أقدار على كشف الحقيقة العلمية وأكثر تهيؤاً لاستقبالها وقبولها, ويمد أمامه آفاقا جديدة لم تكن فى الحسبان, فيميط اللثام بإذن الله تعالى عن الأساليب الخفية والأسرار الكامنة من العلم الإِلهى الشامل وراء مظاهر الكون والحياة, وذلك مصدقاً لقوله تعالى : } واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم { (البقرة : 282), وقوله عز من قائل : } يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم { (الحديد : 28, 29). وهل الكشف العلمى إلا حل لمشكلة يظفر به الباحث بعد عناء تحليل منهجى شاق ودقيق, أو يناله فى فكرة طاؤئة أو فى رؤية تتراءى له, يخطر له فى حلم أو إلهام.

وفى ضوء هذه الحقائق الإِيمانية يرى شيخ الإِسلام ابن تيميه أن التعليم لا يحصل كله بالاستعداد والجد, وأن هناك جزءاً طبيعيا يتلقى بالفتح من الله(27). وكان ابن سينا يقول : (( … كنت كلما تحيرت فى مسألة ترددت على الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح الله لى المنغلق وتيسر المتعسر … )) وحتى فى العصر الحاضر, نرى أن محمد عبد السلام يقول عن نظريته فى توحيد القوى التى سبق ذكرها : (( إن بحثنا عن الوحدة التى تجمع بين الطبيعة التى تبدو متباعدة إنما هو جزء من إيماننا كفيزيائيين ومن إيمانى كمسلم ))(28). أما المفكر الفرنسى روجيه جارودى فيرى أن الإِنسان إذا عرف الإِيمان عن طريق العقل والقلب أثمرت له هذه المعرفة ثماراً يانعة, كما أنه يرى فى المنهج الإِسلامى الذى سبق أن أنقذ امبراطوريات كبرى متهافتة من الفناء فى القرن السابع الميلادى أن بمقدوره اليوم توفير حلول لهذا القلق الذى تعانى منه حضارة غربية لم تنجح إلا فى أن تحفر قبراً للعالم كله(29).

خاتمة

فى ضوء ما سبق يمكن أن نخلص إلى أن الصياغة الإِسلامية لنظرية فى المعرفة العلمية والتقنية يجب أن تخضع لدراسات متأنية فى عدة موضوعات متعلقة بطبيعة التطور التاريخى لمفهوم العلم والتقنية, مثل : ـــ

1 ـــ تصنيف العلوم وتأصيل منهجية الفكر الإِسلامى.

2 ـــ تنقية التاريخ العلمى للحضارة الإِسلامية من مزاعم المستشرقيين والمؤرخين, وتنقية العلوم جميعها من المفاهيم المعارضة لروح الدين الإِسلامى الحنيف.

3 ـــ المعالجة الإِسلامية لمختلف جوانب علم العلم.

4 ـــ الانطلاق فى جميع عمليات التفكير العلمى من مسلمتى التوحيد الإِسلامى والنظام الكونى وربطهما باطراد الظواهر الطبيعية واحتمالية صدق الكشوف العلمية.

5 ـــ صياغة أدوات وعناصر كا من المنهج الاستقرائى والمنهج الاستنباطى والمنهج الفرضى ـــ الاستنباطى المعاصر فى إطار إسلامى, مع بيان شمولية هذا المنهج وعدم مقدرة المحدثين على استبعاد كل جوانبه وأبعاده.

6 ـــ تأكيد إسلامية المعرفة العلمية وبيان ضرورة ذلك لتقدم المجتمه الإِسلامى وتمكين العقلية الإِسلامية من المشاركة فى الإِبداع الحضارى بنصيب يتناسب مع مجد أمتنا ومكانتها فى تاريخ العلم والحضارة.

الهوامش

(1)  د. عزمى إسلام, مقدمة لفلسفة العلوم الفيزيائية والرياضية, ص8, 13, القاهرة.

(2)  د. أحمد فؤاد باشا, فلسفة العلوم بنظرة إسلامية, القاهرة 1984.

(3)  د. عبد الصبور شاهين, العربية لغة العلوم والتقنية, ص 317, ط 2, دار الاعتصام, القاهرة 1986. وهنا تجدر الإِشارة إلى أننا فى تقديم تعريف للعلم والتقنية قد لجأنا إلى منهج الغزالى على أساس أن التعريف يجب أن يكون دالا على الماهية, وإن كان ذلك على حساب التعريف اللفظى للمصطلح (انظر : د. عبد الله حسن رزق, نظرية المعرفة عند الغزالى, مجلة المسلم المعاصر, العدد 48, ص 27, 1987).

(4)  مصطفى طيبة, الثورة العلمية والتكنولوجية والعالم العربى, دار المستقبل العربى القاهرة 1983.

(5)  المعجم الفلسفى, مجمع اللغة العربية, ص 203, 1983 القاهرة.

(6)  لمزيد من التفاصيل فى هذا الشأن يمكن الرجوع إلى المراجع الآتية للتعرف على مواقف العلماء والفلاسفة من هذه النظرية :

ـــ د. ماهر عبد القادر, نظرية المعرفة العلمية, دار النهضة العربية, بيروت 1985.

Hanson, N.R. Patterns of Discovery, The University Press, Campridge,ــ 1958.

Kuhnm T.S. The Structure of Scientific Revobutions, Chicago, 1962. ــ

Poppev, K.R. objective Knowledge, The clarndon Press, Qxford, 1972. ــ

(7)  ــ د. صلاح قنصوه, فلسفة العلم, القاهرة 1981.

ـــ فوريس وديكستر هوز, تاريخ العلم والتكنولوجيا, الترجمة العربية, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة 1986.

ـــ جون ديكنسون, العلم والمشتغلون بالبحث العلمى فى المجتمع الحديث, عالم المعرفة, الكويت 1987.

ـــ محمد عبد السلام, البعد العلمى للتنمية. أكاديمية العالم الثالث للعلوم, تريستا (ايطاليا) 1986.

(8) Carnap R., art. Science if Science, in ; Dictionary of philosophy, wdited by D. Runes, London, 1944.

(9)  Feigl H. amd Brodbeck M., Readings in The Philosophy of sciemce

ـــ د. صلاح قنصوة, المرجع السابق, ص 28.

ـــ د. أحمد فؤاد باشا, المرجع السابق, ص 75.

ـــ رينيه ديبو, رؤى العقل, ترجمة فؤاد صروف, بيروت 1962.

ـــ ج. د. برنال, العلم فى التاريخ, ترجمة د. على على ناصف, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, 1981.

(10)                    تجدر الإِشارة إلى أن بعض المؤرخين لنظرية العلم يحاولون إيجاد أساس لها عند أفلاطون وأرسطو, وهذا يمكن أن يكون مقبولا فى أطار ما هو معروف عن طبيعة المعرفة العلمية عند الإِغريق من حيث الموضوع والمنهج. انظر على سبيل المثال :

ـــ ياسين خليل, منطق المعرفة العلمية, منشورات الجامعة الليبية, 1971.

ـــ د. مصطفى النشار, نظرية العلم الأرسطية, دار المعارف, 1986.

ومادام الأمر كذلك, فلماذا يغفل المنظرون مرحلة ازدهار العلم فى عصر الحضارة الإِسلامية ؟! انظر دراستنا حول (( فلسفة العلوم الطبيعية فى التراث الإِسلامى )) المسلم المعاصر, العدد 49 (1987).

(11)                    (( سيرن )) هو اختصار اسم المركز بالفرنسية, ويعود تأسيسه إلى عام 1954م, عندما اتضح للدول الأوربية أنها متخلفة عن أمريكا فى مجال بحوث الجسيمات الأولية, وأن أيا منها لا تستطيع أن تقوم منفردة بهذه الأبحاث لأنها باهظة التكاليف. وقد تطور هذا المركز وازداد عدد أعضائه وأصبح أكبر وأهم المختبرات العلمية فى مجال فيزياء الجسيمات الأولية.

(12)                    يمكن معرفة المزيد عن فروض نظرية النسبية لأينشتين وتطبيقها لحساب فتره دوام الجسبمات الأولية المتحركة بسرعات عالية بالرجوع إلى مؤلفنا : فلسفة العلوم بنظرة إسلامية, ص 150 ـــ 155, ص 173.

(13)                    محمد عبد السلام, مؤتمر (( الإِسلام والغرب )), دار اليونسكو بباريس, 27 أبريل 1984.

(14)                    د. هشام غصيب, جولات فى الفكر العلمى, دار الفرقان, عمان 1985.

(15)                    كانت هذه النتيجة الهامة واحدة من الكشوف العلمية المميزة التى أهلت العلماء الثلاثة للحصول على جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1979.

(16)                    مجلة العلوم الأمريكية, الترجمة العربية, المجلد الخامس, ع2, أغسطس 1988.

(17)                    مجلة العلوم الأمريكية. الترجمة العربية, المجلد الخامس, ع2, أغسطس 1988. حيث يجد القارىء مقالا علميا مطولا عن الأبعاد الخفيّة مكان (نحت من كلمتى زمان ـــ مكان).

(18)                    انظر ما كتبناه عن (( تطور نظريات نشوء الكون )) فى كتابنا, فلسفة العلوم بنظرة إسلامية. وأيضا : فريد هوبل, مشارف علم الفلك, ترجمة إسماعيل حقى, القاهرة 1963.

ومقال مفيد عن : (( الجريان الواسع النطاق للمجرات )) مجلة العلوم, الكويت, أبريل 1988.

(19)                    اكتفينا هنا ببعض الأمثلة التوضيحية, ونهيب بكل من يتابع البحث فى هذا المجال أن يجتهد فى البحث عن آخر ما وصل إليه العلم فى مجال تخصصه أو المجالات القريبة منه ويعرضه فى قالب مبسط بقدر الإِمكان مع الحفاظ على سلامة المضمون العلمى. فإن هذا سوف يسهم بطريقة غير مباشرة فى تححديث الثقافة العلمية العربية وتنقيتها من الأمثلة القديمة المهترئة التى لا يمل البعض من الإِصرار على تكرارها والدوران حول معانيها التى ربما تكون قد تبدلت وهم لا يشعرون.

(20)                    انظر فى ذلك عرضا شيقا فى عالم المعرفة, ديسمبر 1987, لكتاب : (( الجيل الخامس. الذكاء الصناعى والتحدى اليابانى للعالم )) تأليف فايجنبوم وكوردك.

(21)                    لمعرفة المزيد حول تفاصيل هذه التجربة واحتياطات إجرائها وخصائص المرايا العاكسة الموجودة على سطح القمر وأجهزة إرسال أشعة الليزر واستقبالها على الأرض وأنواع الساعات المستخدمة لقياس الزمن بدقة تصل إلى جزء من الألف مليون من الثانية يمكن الرجوع إلى المقالة التالية :

J. Faller and F. Wampler. The lunar Laser Reflector, in Scientific American Magazine, March 1970, PP 38 – 50.

(22)  د. عبد الحليم محمود, الإِسلام والعقل, ص 209, ط2, دار المعارف 1985.

(23) د. عبد الصبور شاهين, مرجع سابق.

وهنا تجدر الإِشارة إلى خطورة التصدى لفهم المعانى القرآنية التماساً لعطائها اللامحدود بدون قيد أو شرط, خاصة لمن يتعرضون لجانب الإِعجاز العلمى فى القرآن الكريم. ذلك لأن الكلمة لا تعطى دلالتها القرآنية بمجرد الرجوع إلى دلالتها المعجمية التى تتسع لمعان عدة قد لا يقبلها النص القرآنى عللى إطلاقها, ولا وجه لأن نحمل كلمة فى أى نص دلالة لا يعرفها عصره ولا مجتمعه. انظر : ـــ

د. بنت الشاطىء, القرآن والتفسير العصرى, ص51, دار المعارف 1970.

(24) د. أحمد فؤاد باشا. فلسفة العلوم الطبيعية فى التراث الإِسلامى. دراسة تحليلية مقارنة فى المنهج العلمى, مجلة المسلم المعاصر, ع49, سبتمبر 1987 انظر كذلك :

ـــ عبد الحليم الجندى, القرآن والمنهج العلمى المعاصر, دار المعارف 1984.

ـــ سليمان الخطيب, أسس مفهوم الحضارة فى الإِسلام, الزهراء للإِعلام العربى 1986.

(25) د. أحمد فؤاد باشا, التراث العلمى للحضارة الإِسلامية ومكانته فى تاريخ العلم والحضارة, ط2, القاهرة 1984.

(26) عبد المجيد عبد الرحيم, مدخل إلى الفلسفة بنظرة اجتماعية, القاهره 1976.

(27) ابن تيمة, نقض المنطق.

(28) محمد عبد السلام, من كحاضرة ألقاها بجامعة صنعاء فى أبريل 1982.

(29) روجية جارودى, ما يعد به الإِسلام, الترجمة العربية, دمشق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر