أبحاث

الصيرفة الإسلامية وأزمة ديون الدول النامية

العدد 51- 52

ننشر هذه الدراسة لنوضح بالدليل أن الغرب ـــ ممثلا في صندوق النقد الدولى والدول الصناعية الكبرى ـــ حينما كانت توهم المسئولين في بلادنا بأن شركات توظيف الأموال ستجر البلاد إلى الخراب الاقتصادى, كان هذا الغرب نفسه ـــ ممثلا هذه المرة في مؤسساته الكنسية والأكاديمية ـــ يدرس إيجابيات هذا الأسلوب الجديد من العمل المصرفي, وإلى أى مدى يمكن أن يساهم في حل أزمة ديون العالم الثالث.

ليتنا نتناول أمورنا بنفس الجدية التى يتناول بها غيرنا أمورنا …

المحـــرر

لقد شهد العقد الأخير ظهور ونمو نمط جديد من المؤسسات المالية في الشرق الأوسط ـــ وهو المصارف الإسلامية. وفي الوقت نفسه وصلت مديونية عدد كبير من بلدان العالم الثالث للمصارف التقليدية في البلدان الصناعية إلى نقطة التقليدية في البلدان الصناعية إلى نقطة حرجة, وأدت إلى قيام أزمة الديون الدولية. وقد اضطرت منظمات دولية وحكومات وطنية للبلدان الغربية إلى التدخل بغية الحيلولة دون انهيار بعض المصارف الكبرى وما ينطوى عليه ذلك من عواقب لا يمكن التنبؤ بها للنظام المالى الدولى. وتعرضت سياسة الإِقراض التى انتهجتها المصارف الغربية للنقد, وراوح بعض الناس يتساءلون وما أعقبها من أعباء تصحيحية, خاصة للقطاعات الفقيرة من شعوب البلدان النامية, ولو أن المؤسسات المالية التزمت بمجموعة مختلفة من المبادىء, أو ما إذا كانت مصارف ذات فلسفة مختلفة للأعمال يمكن أن تبيّن طرقاً جديدة لحل مشاكل الديون.

وهناك آمال كبيرة معلقة على الأعمال المصرفية الإِسلامية والمصارف الإِسلامية.

تحريم الفائدة وأساليب التمويل المعفاة من الفائدة

لقد حرم الله الربا وأحل التجارة بل وشجعها. وتناول عدد من آيات الذكر الحكيم هذا الموضوع. إن كلمة ((ربا )) العربية القديمة تترجم كفائدة, وثمة توافق في الآراء بين أصحاب المصارف الإِسلامية أنه يجب على جميع المؤسسات المالية التى تريد أن تمارس أعمالها وفقاً للشريعة الإِسلامية, أن تتجنب جميع أنواع الفائدة بغض النظر عن السعر (المعتدل أو الربوى). أو غرض القرض (الإِستثمارى الإستهلاكى أو الإِنتاجى).

إن ممارسة الأعمال وفقاً للشريعة الإِسلامية يعنى ممارسة الأعمال بدون فائدة, ولكن ممارسة العمل بدون فائدة لا يعنى أن المصارف الإِسلامية توفر السيولة بدون تكاليف على الإِطلاق. فالمصارف الإسلامية يمكن أن توفر السيولة على أساس المشاركة في الربح والخسارة مع المتعهدين, فيتفق المصرف والمتعهد على أن يشارك المصرف في النتائج المالية للمشروع, أو الشركة والذى أمدّه المصرف برأس المال ( بأجزاء منه أو كله), وقد تكون النتائج إيجابية أو سلبية, أى الأرباح والخسائر.

ـــ ففي حالة الربح يتلقى المصرف جزءًا محدداً سلفاً كنسبة مئوية, ولكن ليس كمبلغ محدد ( كما هو الحال بالنسبة لفائدة القروض).

ـــ وفي حالة الخسارة, يلتزم المصرف بتحمل جزء من هذه الخسارة حسب نصيب المصرف في رأس المال الإِجمالى للمشروع الممول أو الشركة, وتسمى هذه الشركات القائمة على أساس اقتسام الربح والخسارة (بالمضاربة في حالة ما إذا كان المصرف هو الذى قدم رأس المال كله وبالمشاركة إذا ساهم المصرف والمتعهد في رأس المال), وتعنى هذه المشاركات ضمناً ((اقتسام الخطر)) بين المصرف والمتعهد. وهذا يجعل التمويل على أساس اقتسام الربح والخسارة جذّاباً للمتعهدين, ولكن ليس جذاباً للمصرف.

ومع أن المصرف الإِسلامى يمكن أن يقدم سيولة على أساس الشاركة في الربح والخسارة فقط ( أو تمويلاً حراً تماماً (( كقرض اجتماعى )) لناس محتاجين ), فإن هناك بعض أنماط التمويل الأخرى ذات العائد الثابت للمصرف.

وتمتاز أنماط التمويل هذه بأن المصرف لا يقدم سيولة, وإنما يقدم سلعاً حقيقية يكون المتعهد بحاجة إليها, مثال ذلك :

ـــ يمكن أن يشترى المصرف مواد خام أو بضائع بناء على طلب العميل, ويبيع هذه السلع له بسعر التكلفة مضافا إليه نسبة من الربح تمت الموافقة عليها سلفاً بين المصرف والعميل (المرابحة).

ـــ ويمكن لمصرف أن يشترى أصولاً حقيقية (أى آلة) يحتاجها العميل, ويقوم المصرف بتأجيرها له (إجارة).

إن العامل المشترك لمثل هذه الحالات هو أنها ليست عمليات مالية صرفة, لكن يمكن اعتبارها كأشكال محدودة للتجارة ( شراء وبيع سلع نقداً أو حسب دفع مؤجلة أو على أساس أقساط ) أو الإِجارة. على أن التجارة أو الإِجارة لا يحرمها القرآن. إن زهاء 80 في المائة أو أكثر من تمويل معظم المصارف الإِسلامية مؤسَّسٌ على هذه الأنماط من التجارة والإِجارة الخاصة بالتمويل مع عائدات ثابتة للمصرف.

قد يكون الفرق الاقتصادى بين قرض ذى فائدة لشراء بعض السلع وبين أو (إيجار) هذه السلع مقابل مرابحة محدودة مسبقاً ( أو سعر الإِيجار ). غير مهم, ولكن لايمكن نكران أن هناك فَرْقاً قانونيا بين قرض ومعاملة تجارية ( وهو معروف أيضاً في القوانين المدنية الغربية ), وأن هذا الفرق القانونى فرق مهم.

وفيما يتعلق بأعمال الإِيداع لمصرف إسلامى فإنه ينبغى التمييز بين الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار.

ـــ تستخدم الحسابات الجارية لتحويل العملة. ولا تتلقى الودائع في الحسابات الجارية أى عائد, لأنه يمكن سحبها أو تحويلها في أى وقت, وأن المبالغ المدفوعة يضمنها المصرف.

ـــ أما الأموال التى تودع في حسابات الاستثمار, فلا يمكن سحبها قبل الاستحقاق (عادة من 6 إلى 12 شهرا) وهى غير مضمونة من البنك, وتشارك ((ودائع)) الاستثمار في النتائج المالية للمصرف

( أو أى ((شركة استثمار)) منفصلة يديرها المصرف) والتى ينبغى أن تكون إيجابية, ولكن يمكن أيضاً أن تكون سلبية. ويجرى تطبيق مبادىء الشركات القائمة على أساس اقتسام الربح والخسارة بين ((المودعين)) (بصفتهم دافعى رأس المال) والمصرف (بصفته المضطلع بدور المتعهد).

البعد الكمى للأعمال المصرفية الإِسلامية

وأزمة ديون العالم الثالث

حينما حصلت البلدان الإِسلامية على استقلالها السياسى, انتهجت نظماً مالية غريبة قائمة على أساس الفائدة. وبعد تجربة مع المصارف الإِدخارية بدون فائدة في مصر في الستينات, أنشىء أول مصرف تجارى إسلامى في دبى عام 1975, ومنذ ذلك الوقت أنشئت أكثر من 50 مؤسسة مالية إسلامية في بلدان إسلامية كثيرة ( بما فيها مصر والأردن وتركيا والكويت والبحرين وقطر وبنجلادش وماليزيا, ولكن باستثناء, إلى وقت غير بعيد, المملكة العربية السعودية), وحتى في بلدان غربية (مثل المملكة المتحدة والدنمرك والباهاما). وتمارس جميع المصارف الإِسلامية أعمالها, فيما عدا إيران وباكستان, في الأسواق المالية التى مازالت تحت سيطرة المصارف التقليدية ذات النمط الغربى, وعمدت البنوك التقليدية في بعض البلدان الإِسلامية إلى فتح ((إدارات إسلامية)) أو ((شبابيك بدون فائدة)), كما عندت المؤسسات المالية الغربية المعروفة إلى عرض المشاركة في الأموال على المسلمين الأثرياء (أنواعاً من شركات الاستثمار) تدار حسب ما تعتبره المصارف الغربية (وعملاؤها) بالمبادىء الإِسلامية.

وقد حققت المؤسسات المالية الإِسلامية نجاحاً كبيراً في جذب الأموال وجمع الودائع. حتى وصلت أنصبتها السوقية في ودائع المصارف للقطاع الخاص 20 ـــ 25 في المائة أو أكثر في مصر والكويت والسودان. أما فيما يتعلق بالأصول الإِجمالية, فإن المصارف الإِسلامية تعتبر من بين أكبر المصارف القومية في مصر والأردن والكويت, ولكن هناك اختلافات ملحوظة من حيث الحجم بين المصارف الاسلامية, ففي حين أن أكبر المصارف تبلغ أصوله الإِجمالية قرابة ثلاثة مليارات دولاراً أمريكياً, تبلغ أصول أصغر المصارف حوالى عشرة ملايين دولاراً, وقد يصل مجمل ميزانيات جميع المصارف الإِسلامية (فيما عدا إيران وباكستان) إلى 15 ـــ 20 مليار دولاراً أمريكي.

ولم تتوفر بعد الأرقام الموثوق بها عن الأموال التى اجتذبتها شركات الاستثمار الإِسلامية وغيرها من المؤسسات المالية التقليدية غير المصرفية, وكذلك ((المنتجات الإسلامية)) للمؤسسات المالية. وعلى فرض تعبئة نفس المبالغ كالمصارف, فإن الرقم الخاص بها سيكون هامشياً بمقارنته بمجمل ديون البلدان النامية والتى تقدر بأكثر منه 1000 مليار دولارا أمريكى.وفيما يتعلق بالدين المستحق الطويل الأجل (العام والخاص) للبلدان الإِسلامية غير المصدرة لرأس المال, والذى يزيد 150 مليار دولار, فإن الأصول الإِجمالية للمؤسسات الإِسلامية تبدو أكثر ملاءمةً.

ولو فرضنا أن المؤسسات الإِسلامية على استعداد ابذل أقصى ما يمكن من المساعدة لحل مشكلة ديون العالم الثالث, فإن مساهمتها المحتملة ستكون أقل بكثير من أصولها الإِجمالية.

ـــ يجب استبعاد أصول تلك المصارف الموجودة في بلدان من بين البلدان المقترضة و/ أو حيثما تكون الحكومة قد فرضت قيوداً على تدفق رأس المال وعلى الأنشطة المالية الدولية للمصارف الوطنية.

ـــ والذى يجب معرفته أن أرقام الميزانية تحتسب بالدولار الأمريكى دون غيره, بينما ودائع كثير من المصارف تتألف بصورة رئيسية من عملة محلية غير قابلة للتحويل.

ـــ إنه لا يبدو أن الاستراتيجية الأكثر فطنة للمصارف هى في قصر اهتمامها على عمليات التمويل في البلدان الأخرى, حيث تكثر الأخطار السياسية والاقتصادية (مثلا أسعار الصرف ولوائح الصرافة). وهكذا فإن الحد ((الأعلى)) الممكن ـــ حسب تقييم إدارات المصارف ـــ قد يكون منخفضاً في الصورة المطلقة وثمة مصارف قليلة جداً ( وخاصة مصارف الـ offshore  في البحرين) تكاد تكون قاصرة على التمويل الدولى. وتتجنب التعامل مع عملاء في بلدان مثقلة بالديون باستثناء البلدان العربية البترولية الغنية والبلدان الغربية.

ونظراً لأن المصارف الإِسلامية ليست ((مصارف ذات رأس مال بترولى)) ـــ فإن كثيرا منها يوجد في بلدان مستوردة لرأس المال وليست مصدرة له. ولأن ودائعها من العملة الأجنبية محدودة, فإن إسهامها الكمى في حل مشكلة ديون العالم الثالث يمكن أن يكون متواضعاً على أحسن تقدير, بالإِضافة إلى ذلك هناك بعض المشاكل التقنية في تقديم التمويل للبلدان المدينة لأن المصارف الإِسلامية مقيدة بالنسبة إلى التقنيات التمويلية القابلة للتطبيق. ويبدو مستحيلاً أن تمنح المصارف الإِسلامية قروضاً ((غير مشروطة)) للحكومات, لأن التمويل يجب أن يكون مرتبطاً بأنشطة ((حقيقية)) مثل إنشاء شركة أو استثمارات أو تجارة دولية.

وقد قام عدد من المراقبين باعتبار ذلك ميزة كبيرة للأعمال المصرفية الإِسلامية إذا قورنت بالأعمال المصرفية التقليدية ولكن هذا التقييم يعتبر نظريا إذا واجهه السؤال التالى :

((هل من الممكن أن يؤدى الإِلتزام بالمبادىء الدولية إلى منع ظهور أزمات الديون ؟.

المبادىء المصرفية للاقتصاد الجزئى ومشاكل خدمة الديون للاقتصاد الكلى

ينشأ القيم المتفائل للأعمال المصرفية الإِسلامية أساساً على انتقاد سياسة الإِقراض (القديمة), التى كانت تنتهجها المصارف التقليدية .. ويقال أن المصارف التقليدية التى تتلقى دفعات ذات فوائد مقررة سلفاً بغض النظر عن النتائج المالية (أرباح أو خسائر) للمشروع المموَّل, لا تعبأ كثيراً بشأن استثمار الأموال التى قدمتها أو بشأن نوعية المشاريع التى مولتها طالما أن هناك ضمانات إضافية كافية لهذه القروض.

بينما تقوم المصارف الإِسلامية التى لا تتلقى فائدة محددة وإنما تشارك في الأرباح والخسائر مع شركائها من المتعهدين. ويقال أن إنفاق الأموال المستدانة في أغراض غير إنتاجية (بما في ذلك الاستهلاك الحكومى) لن يحدث في ظل المبادىء المصرفية الإِسلامية, ولذلك فإنه لا يوجد هنا عامل رئيسى من العوامل التى أدت إلى أزمات الديون.

ومع وجاهة هذا الرأى إلا أنه يصطدم باعتراضات عديدة, منها : أن المصارف الإِسلامية لن تقدم السيولة إذا لم تكن هناك أنشطة ((حقيقية)), ولكن مما لاشك فيه أن هذه الأنشطة قد تشمل استيراد أسلحة أو سيارات فارهة لاتزيد من القدرة الإِنتاجية لبلد ما, وإنما تمتص موارد نادرة من العملة الصعبة. وليس هناك ضمان مفاهيمى ضد الإِسراف في الإِنفاق الخاص والعام. ومن ناحية أخرى, تهتم المصارف التقليدية بالجدوى الاقتصادية للمشاريع التى تمولها لأنها لاتكسب أموالاً من تصفية الضمانات الإِضافية, وإنما من الدخل الذى تحققه المشاريع المموَّلة.

ـــ أن المصارف الإِسلامية لا تتصرف في الواقع كما يزعم المتفائلون : ذلك أن حجم تمويل المصارف الإِسلامية يتم بالنسبة إلى المعاملات التجارية القصيرة المدى, ولا يقوم هذا التمويل على أساس اقتسام الربح والخسارة, وإنما على طريقة هامش المرابحة. وحتى حينما تشارك المصارف الإِسلامية في التمويل المشاريع, فإن هذا لا يتم على أساس اقتسام الربح والخسارة, وإنما عادة حسب ترتيبات تتعلق بالتأجير أو الإِيجار المنتهى بالتمليك.

ليس هناك اختلاف اقتصادى كبير بالنسبة إلى العمليات التمويلية القائمة على أساس الفائدة : فالمصارف الإِسلامية تتلقى دخلاً مقرراً سلفاً بغض النظر عن نتائج النشاط المموَّل, أما بالنسبة إلى الشركة المموَّلة فإن كلا من دفعات التأجير والفائدة تعتبر تكاليف محددة في حالات المشاكل المُرهقة. أما وأن ممارسة المصارف الإِسلامية تختلف اختلافاً ملحوظاً عن أيدولوجية الأعمال المصرفية الإِسلامية, فليس مردّ ذلك إلى الجهل إدارت البنوك أو سوء نيتها, وإنما تعود أسبابها إلى بض حقائق الاقتصاد الجزئى : التى تعتبر المصارف الإِسلامية مؤسسات فتية.

ويتوقع المودعون الذين أودعوا أموالهم في حسابات استثمارية الحصول على عوائد مجدية منذ البداية. فإذا قدّم مصرف إسلامى تمويلًا لمشاريع مع فترة تأسيس قوامها سنتان أو ثلاث سنوات أو أكثر (على أساس المشاركة), فإن هذا يعنى أن المصرف وأصحاب الحسابات الاستثمارية لن يتلقوا أى دخل من تلك الاستثمار لمدة طويلة.

وثمة عقبة أخرى أمام تمويل المشاريع هى هيكل الاستحقاق للودائع : إن معظم الودائع قصير المدى, ومن الخطر تمويل مشاريع متوسطة المدى وطويلة المدى من أموال قصيرة المدى. وهناك مشكلة أيضا للمصارف التقليدية وهى سوء تنظيم مواعيد الاستحقاق, ولكنها مشكلة أخطر بالنسبة للمصارف الإِسلامية لأنها لم تطوَّر بعد أدوات كافية لوضع أموال إضافية قصيرة الأجل لجمع الأموال في حالة حدوث تقص في السيولة, كما أنها ليست لها سبيل إلى تسهيلات الإِقراض ذات الفائدة للمصارف المركزية.

إن بعض هذه العقبات التى تعوق تمويل المشاريع المتوسطة والطويلة الأمد, القائمة على أساس المشاركة في الربح والخسارة, يمكن التغلب عليها باكتساب مزيد من الخبرة والمستحدثات المالية في المستقبل. ولذلك, فإنه ليس من قبيل التّمنى البحث, الافتراض بأن هذه الممارسة ستقرب من أيديولوجية الأعمال المصرفية الإِسلامية, ولكن حتى لو أن المصارف الإِسلامية اقتصر تمويلها على المشاريع الكبيرة الربح في البلدان الأخرى, وذلك على أساس المشاركة في الربح والخسارة, فإن ذلك لن يكون كافياً للحيلولة دون ظهور أزمة ديون في جمع الظروف.

إذا قدمت المصارف الإِسلامية تمويلا بالعملة الأجنبية, فإنها تتوقع السداد وتحويل أنصبتها في الأرباح بالعملة الأجنبية أيضاَ كالدولار الأمريكى مثلا, وقد يستخدم المصرف, كمقياس لربحية مشروع ما نسميه ((مردود رأس المال)). ولكن هذه النسبة (المئوية), تحتسب عادة على أساس أرقام محدودة بالعملة ((الوطنية)) وعندئذ يعمد المصرف إلى تحويل الأرقام على أساس الدولار الأميركى (مطبقاً سعر الصرف المتوقع) ويقرر ما إذا كان سيمول المشروع أم لا. وحينما تتحقق الأرباح, سيطالب المصرف المتعهد بتحويل أرباح المصرف إلى الدولار الأمريكى. ولكن إذا حقق المشروع ربحاً كبيراً بالعملة الوطنية, لكنه لا يكسب دولارات أمريكية مباشرة ولا يدخر دولارات أمريكية (لأنه يدفع ثمن واردته بالدولار الأمريكى), عندئذ قد تواجه البلد نفس مشاكل النقص في النقد الأجنبى تماماً كالمشاكل التى كانت ستواجهها لو أن التمويل جاء من مصارف تقليدية … لذا ليس للمصرف الإِسلامى المطالبة بمبلغ محدد من الدولارات الأمريكية كل سنة كما للمصرف التقليدى, ولكن المصرف الإِسلامى يمكن أن يطالب بنصيب معين من الأرباح بالنقد المحلى وتحويل هذا المبلغ إلى دولارات أمريكية. بينما يكون الربح مرهونا به (ويختلف حسب) أداء الاقتصاد الجزئى للمشروع, فإن المطالبة بالنقد الأجنبى لاتعتمد على أداء الاقتصاد الكلى للبلد. إن المبلغ المطلق لنصيب المصرف من الربح سينخفض بانخفاض الدخل الصافي للمشروع, ولكن المطالبة بالنقد الأجنبى لن تنخفض حينما تنخفض الأرباح من النقد الأجنبى. إن الذى يمكن أن يؤدى إلى أزمة ديون بمعنى عدم السيولة الجدولية هو أداء الاقتصاد الكلى بالنسبة إلى الأرباح من النقد الأجنبى (من صادرات السلع والخدمة بصورة أساسية). وليس كنتيجة لأداء مشروع ذى اقتصاد جزئى أو صيغة يتم بموجبها توزيع داخل المشروع بين الشركاء.

وهكذا, فإنه لكى يتسنى منع قيام مشاكل تتعلق بخدمة الديون (للاقتصاد الكلى) (بالمعنى الأعم), يجب مراعاة معيار إضافي في تقييم مشاريع الاقتصاد الجزئى, أى قدرة المشروع على كسب النقد الأجنبى, وهذه المقدرة يجب أن تكون أكبر من التحويلات المتوقعة لممولى المشروع الخارجيين. ولعله من المهم ـــ إلى حد ما ـــ معرفة الأساس الذى عليه تقدّم الأموال الخارجية, هل هو أساس الفائدة أو المشاركة في الأرباح والخسائر. ويكون لذلك تأثيره في حالة عدم قيام المشروع بالأداء المتوقع, فعندئذ سيؤدى التمويل على أساس المشاركة في الأرباح والخسائر إلى خفض المطالب الخارجية. ولكنه لضربٌ من الوهم الافتراض بأن عنصر المشاركة في الخطر لن يكون له ثمن. ولذلك فإن من المعقول الافتراض بأنه في حالات الأداء المتوقع, ستكون تكاليف الأمور ـــ وبالتالى مطالب النقد الأجنبى ـــ أعلى, حسب ترتيب متعلق بالمشاركة في الأرباح والخسائر, منه في عملية التمويل ذى الفائدة. ولكن لا ينبغى المبالغة في تقدير ضخامة هذه النقطة والتشديد عليها.

والخلاصة أن قدرة توليد النقد الأجنبى لمشروع ما ـــ وليس شروط التمويل الخارجي ـــ هى المهمة حينما يراد منع قيام مشاكل تتعلق بخدمة الديون والسيولة الجدوليةً. فإن تقييمها غير وارد في المعايير القياسية المتعلقة بتقييم مشاريع الاقتصاد الجزئى لا للمصارف التقليدية ولا للمصارف الإسلامية. وهكذا فإن الالتزام بالمبادىء المصرفية الإِسلامية وحدها لا يمكن أن يحول دون قيام مشاكل تتعلق بالديون الخارجية, كما أنها لا تقلل حتى من احتمال حدوث هذه المشاكل, ومن الصعب إدراك كيف يمكن إقرار الدعوى يتفوق الأعمال المصرفية الإِسلامية على الأعمال المصرفية العادية.

على أن الالتزام بالمبادىء المصرفية الإِسلامية يمكنه في حالة واحدة, التخفيف من وطأة الالتزامات التحويلية والتقليل من خطر نشوب أزمات الديون, وخاصة إذا تسبب حدث خارجى (مثل خفض حاد في أسعار بند التصدير الرئيسى) في تقليل ربحية الاستثمارات الأجنبية (محسوبة بالنقد الوطنى) وليس الإِيرادات من النقد الأجنبى للبلد فقط.

ـــ إذا كانت الاستثمارات الأجنبية يجرى تمويلها بقروض ذات فائدة, فإن إلتزامات التحويل ستستمر وقد تتسبب في حدوث أزمات في النقد الأجنبى.

ـــ أما إذا كان الاستثمارات الأجنبية تُموَّل على أساس المشاركة في الأرباح الخسائر, فإن الربحية المخفضة في النقد الوطنى ستؤدى إلى خفض متناسب مع التزامات التحويل. وفي هذه الحالة يقل احتمال حدوث أزمة في النقد الأجنبى.

ولكن إذا تسبب العامل الخارجى في حدوث انكماش عام, وإذا كانت غالبية الاستثمارات الأجنبية تمول على أساس المشاركة في الأرباح والخسائر, فإن أثر تخفيف حدة الحالة سيكون كبيراً, إلا فإنه لن تكون هناك صلة ذات بال بين نمط تمويل المشاريع وربحية مشروع بعينه في النقد الوطنى, والوفرة العامة للنقد الأجنبى. ولا نستعبد حدوث إعانة أو إغاثة ـــ وخفض في احتمال قيام أزمة ديون ـــ إذا كانت الاستثمارات الأجنبية تمول على أساس المشاركة في الأرباح والخسائر, ولكن الأثر الكمى مرهون, بصفة أساسية, بعدد ونوع المشاريع الممولة على أساس المشاركة في الأرباح والخسائر. وإذا أخذنا هذا بعين الاعتبار وأن المصارف الإِسلامية قد أبدت أفضلية للأنماط الخاصة بتمويل المشاريع على أساس عدم المشاركة في الأرباح والخسائر, فإن مما لا شك فيه أن المبادىء المصرفية الإِسلامية لن تكون نوعاً من العلاج التام لمشاكل ديون العالم الثالث.

المصارف الإِسلامية وتكوين رأس المال الوطنى

وإيجازا للحجج التى أثيرت حتى الآن, نقول أن احتمال إسهام المصارف الإِسلامية في حل مشكلة ديون العالم الثالث لا يبدو مشرقاً جدا. ولكن ثمة إمكانية أهم وهى : إذا أرادت البلدان النامية أن تقلل من اعتمادها على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية, فإنه يجب عليها أن تطور نظمها المالية الخاصة بها بغية تسهيل وتعزيز عملية تكوين رأس المال من مواد وطنية. وهنا يمكن أن تلعب المصارف الإِسلامية دوراً حاسماً إذا ما انتهجت بعض المؤسسات على أقل تقدير فلسفة واستيراتيجية معينة.

غالباً ما يقارن العالم الإِسلامى خطأ بالبلدان العربية الغنية بالبترول, إن مجموع سكان تلك البلدان البالغ عددها 45 بلدا والتى تشكل منظمة المؤتمر الإِسلامى سيصل قريباً جداً إلى مليار نسمة, ويعيش أكثر من 80 في المائة من هؤلاء السكان في عشر من البلدان الإِسلامية الـ45, ويُسهم القطاع الزراعى في معظم هذه البلدان إلى حد كبير في النتائج الداخلى الإِجمالى ويستوعب حوالى نصف القوى العاملة.

وإذا لم يستمر الدين الخارجى في الزيادة, فإن القطاع الزراعى هو القطاع الذى ينبغى أن ينتج الفوائض التى يمكن توجيهها إلى الصناعة لتسهيل نموها وتوسعها. ولذلك فإنه لمن المناسب إدماج القطاع الزراعى في عملية تكوين رأس المال الوطنى, وهذا بدوره يتطلب إدماج السكان القرويين في النظام المالى الوطنى. وثمة شرط أساسى وهو أن تكون هناك مؤسسات مالية ليست في متناول السكان مادياً فحسب في المدن الصغيرة والقرى, ولكنها تكون كذلك موضع ثقة الناس. وجدير بالذكر أن السكان القرويين في الغالب لايقبلون فروع المصارف التقليدية لأن العمليات المصرفية التى تجرى على أساس الفائدة والأنشطة المالية تتركز على مراكز الأعمال الكبيرة للبلاد وتهمل الاحتياجات الائتمانية للمنطقة الريفية.

وثمة افتراض أساسى وهو أن السكان الريفيين لهم الإِرادة والقدرة على الادخال, والادخار هنا يعنى أن أجزاء من الدخل الحقيقى لا تستخدم لإِشباع الحاجات اليومية وإنما ((تحفظ جانبا)) لاستخدامها في وقت لاحق (مثلا, في سن الشيخوخة وفي حالة المرض وفي مناسبات خاصة مثل الزواج). وهناك مشكلة إنمائية وهى أن الناس الريفيين يحتفظون بهذه المدخرات فقط لحد صغير جداً في شكل أصول مالية أو في النظام المصرفي. ولكنهم ((يدخرون)) ـــ إلى جانب اكتناز الأموال ـــ في صورة شراء أصول حقيقية (مثل الحلى والسجاد والعقارات والسلع الاستهلاكية المعمرة). على أن هذه الممارسة لها نتائج سلبية على مستوى الاقتصاد الجزئى الفردى وعلى مستوى الاقتصاد الكلى الاجتماعى.

ـــ فبالنسبة إلى الأفراد يتسبب ((ادخار الأصول الحقيقية)) في الغالب في تكاليف عالية للمعاملات : ففي حالات اشتداد الحاجة إلى تصفية الأصول الادخارية, فهذا يمكن عادة فقط مع تحمل تخفيضات كبيرة في أسعار البيع ((الحالية)) بمقارنتها بأسعار الشراء ((السابقة)).

ـــ وبالنسبة للاقتصاد كله, فإن ((إدخال الأصول الحقيقى)) يحبس عوامل الدخل في إنتاج الأصول الادخارية, وهذه العوامل يمكن تحويلها إلى خطوط الإِنتاج مع آثار تنموية أعلى حينما يدخر الناس جانباً أجزاء من دخولهم الجارية لا بَشراء أصول حقيقية وإنما بحيازة أصول مالية وذلك بإيداع أموالهم في حسابات مصرفية.

إذا نجح الإِنسان في إحداث تغيير في نمط السكان السلوكى بالتحول من الادخار في أصول حقيقية إلى الادخار في الأصول المالية (وبمعنى أعم, أن يشمل ذلك حسابات إدخارية في البنوك والأوراق المالية), عندئذ يمكن زيادة نسبة الادخارات الإِحصائية للاقتصاد الكلى بدون قيود في مستوى الاستهلاك الخاص. ويمكن إلى جانب ذلك إطلاق العوامل الإِنتاجية لاستخدامها في أغراض استثمارية. إن المهم في هذا الشأن من بين أمر أخرى : ـــ

ـــ أن المؤسسات المالية ليست فقط غير فعالة في مراكز الأعمال في المناطق الريفية وليس مع كبار الملاك وإنما بصفة خاصة مع صغار الناس.

ـــ وأن مبادىء العمل عند المصارف لا تتعارض مع المعتقدات الدينية العميقة لعملائها.

ـــ وأن الأموال التى تعبأ هكذا لا تتدفق إلى مراكز تجارية بعيدة, وإنما تستثمر ـــ على الأقل في مناطق هامة ـــ في المجتمع المحلى لا عطاء حوافز إنمائية ملحوظة.

إن إنشاء مصرف في قرية أو مدينة صغيرة أمر غير عادى, وأن هؤلاء الذين لديهم النية سيواجهون عقبات لجميع رأس المال وإيجاد الموظفين المناسبين لمشروعهم, وأن أوجه الحيرة فيما يتعلق بالجدوى التجارية لمثل هذا المشروع لا تدعو إلى التفاؤل في السنوات الأولى. ولكن هناك على الأقل أمل في أن الإرباح على المدى الطويل قد تصبح تنافسية إذا نجح المصرف في البدء في التنمية الاقتصادية في المجتمع المحلى, ويكون قادراً على خلق مجموعته من الناس الذين يجدون أعمالا بأنفسهم’ وإيجاد متعهدين جدد يقوم المصرف بتمويل أنشطتهم ومشاريعهم. ولكى يتسنى للمصرف تحقيق هذا الهدف يمكنه مثلاً أن يوجه الاهتمام بصفة خاصة إلى تمويل الأجهزة التى من شأنها تحسين الإِنتاجية لصغار الحرفيين والفلاحين والتجار .. إلخ, الذين ليس لهم في الواقع أمل في الحصول على قرض من مصرف تقليدى نظراً لافتقارهم إلى الموارد الإِضافية. وعلى المصرف ألا يهتم كثيراً بالأصول الإِضافية (القائمة) وإنما ينبغى له أن يولى إهتماماً أكثر إلى صفات العميل الشخصية.

كما أنه لا ينبغى أن تكون قرارات التمويل مقصورة على ((الرأسمال المادى)) ((الأصول الإضافية)), وإنما بصفة رئيسية على ((رأس المال البشرى)) للعميل. والتوقعات على أنه لن يكون هناك عجز كبير مادام العملاء يدركون أنه ليس لديهم بديل لعمليات التمويل المستقبلية. وينبغى أن يكون هدف المصرف الإِسلامى تغيير سلوك الناس (لتوعية الجماهير), لإِدماج السكان الريفيين في النظام المالى (وبذلك يتحقق توسيع القاعدة لتكوين رأس المال الوطنى), وإلغاء مركزية النظام وخلق ((أنظمة فرعية)) إقليمية تدعم نفسها بنفها بغية تحسين الفرد والوضع الاقتصادى الجماعى لغالبية الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية.

إن مفهوم المصارف الإِسلامية الريفية والموجهة نحو التنمية قد يبدو غريباً لمراقب خارجى, وخاصة إذا نظر إلى ممارسة الأعمال للمصارف التجارية الإِسلامية القائمة. ويتكون عملاء هذه المصارف أساساً من الناس ورجال الأعمال في مراكز البلد التجارية. وهذه المصارف التقليدية على قطاع معين من السوق. ولكن هناك من ناحية أخرى بعض الأمثلة المشجعة لنمط المصارف الإِسلامية الموجهة نحو التنمية : ففي الستينيات أُنشئت مصارف بدون فائدة في بلد ((ميت غمر)) في مصر, وقد أصابت هذه المصارف نجاحاً كبير في تعبئة المدخرين ولكن هذه التجربة انتهت لأسباب سياسية, ولكن أصحاب ذلك المشروع استطاعوا أن يديروا ((مصرفاً)) جديداً في القطاع التركى من قبرص منذ عام 1982. إلى جانب ذلك قدم مصرف إسلامى في السودان أساليب تمويل جديدة للقطاع الزراعى, وخاصة لصغار المزارعين الذى طال إهمالهم من جانب المصارف التقليدية, وأجريت كذلك بعض التجارب مع مؤسسات مالية بدافع إسلامى من أجل ((صغار الناس)) في بنجلاديش والهند وجنوب أفريقيا وترينيداد توباجو. إن مؤسسات مالية من هذا القبيل ذات القدرة على خلق قطاعات جديدة تُعيل نفسها بنفسها في الاقتصاد, وتوسع قاعدة تكون رأس المال الوطنى قد تصبح, على المدى الطويل, أكثر أهمية, لإِيجاد حل دائم لمشاكل ديون البلدان النامية من المصارف التجارية التى تستطيع أن توفر مبالغ كبيرة من الأموال في وقت قصير, ولكن بدون حوافز لإِجراء التغييرات البنائية التى تشتد الحاجة إليها, وخاصة في المناطق الريفية في البلدان النامية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر