أبحاث

القيم والمعايير الإسلامية في تقويم المشروعات

العدد 31

تمهيد

0/1 التعريف بالموضوع وأهميته

يعتبر الاستثمار من النشاطات الاقتصادية البالغة الأهمية. وذات الآثار المعتمدة القريبة والبعيدة. ويطلق اسم ” تقويم المشروعات” على إجراءات الدراسة التي نتوصل بها الى معرفة ما إذا كان من المرغوب فيه القيام بمشروع استثماري جديد.

ولتقويم المشروعات أسماء عديدة أخرى منها: تخطيط الاستثمار، والاقتصاد الهندسي (engineering economy)، وتحليل المشروعات (project analysis)، وبرمجة الاستثمار (capitalbudgecting)وتحليل التكاليف والمنافع(cost – benefit analysis) ولبعض هذه الأسماء دلالات خاصة. فبرمجة الاستثمار غالبا ما تعنى تقويم المشروعات، في مؤسسة خاصة مع الاهتمام بدراسة مصادر التمويل وأساليبه.

أما تحليل التكاليف والمنافع فغالبا ما يقصد به تقويم المشروعات العامة دون الخاصة.

 وقد تزايد الاهتمام بموضوع تقويم الاستثمارات بصورة مطردة بعد الحرب العالمية الثانية لدى الدول الغنية والفقيرة على السواء. ولذلك أسباب منها ازدياد أهمية الاستثمارات في مجموع الانفاق الحكومي، واهتمام خطط التنمية بالاستثمار – باعتباره أحد الوسائل الرئيسية لتحقيق اهداف أية خطة.

وقد تصدرت العشرات من الكتب والمئات من الأبحاث خلال العقين الماضيين حول موضوع تقويم المشروعات، وتعقد له سنويا العديد من الدورات التدريبية في المنظمات الدولية والمؤسسات العامة والخاصة في مختلف البلدان كما أصبح من مواد الدراسة الشاعة في الجامعات.

لذلك فان تحديد دور القيم الإسلامية في تقويم المشروعات هو أمر على جانب كبير من الأهمية من الوجهتين النظرية والتطبيقية.

0/2 نطاق هذا البحث ومنهجه:

يعالج هذا ثلاث قضايا رئيسية تتعلق بالمشاريع التي تنتج سلعا أو خدمات للبيع، سواء أكانت تلك المشاريع خاصة أو عامة (1):

القضية الأولى، وتتضمنها الفقرات 2/1 – 2/5 هي استخلاص المعايير التي تعبر عن القيم الإسلامية يمكن على أساسها المفاضلة بين المشروعات المختلفة.

والثانية، وتتناولها الفقرات 1/3 – 3/4، هي البرهنة على أن من الممكن صياغة تلك المعايير رياضيا في دالة مصلحة إسلامية.

والقضية الثالثة، وتحويها الفقرات 3/3 – 3/4، هي بيان كيفية استخدام دالة المصلحة الإسلامية عمليا في تقويم المشروعات.

هذا بالنسبة لنطاق البحث. أما بالنسبة لمنهجه فقد كان علينا في القضية الأولى أن نختار أحد طريقتين: أسهلهما وأكثرهما انتشارا حتى الآن هي الانطلاق من المعايير المتداولة بين الاقتصاديين المعاصرين (مثل زيادة الدخل القومي، والعمالة الكاملة، والتنمية المتوازية، الخ…) واختبارها سلبيا من وجهة إسلامية، بحيث نرفص منها ما قد يتعارض مع الإسلام، ونقبل ما لا يظهر فيه تغاض. وهذا الطريق على الرغم من كثرة من ساروا عليه صراحة أو ضمنا لا تمن عواقبه، فهو غالبا ما يدي الى الغفلة عن القيم الإسلامية الرئيسية، والى تبني معايير غريبة عن مومة القيم والاهداف الإسلامية او ضعيفة الصلة بها. ومن الصعب حينئذ تحديد الأهمية الشرعية لتلك المعايير ومدى الزاميتها للفرد أو للدولة.

لكن الطريق الصحيح والاصعب الذي لزمته ما استطعت هو محاولة استنباط معايير تقويم الاستثمار من صميم الشريعة ومقاصدها الكبرى مع التعبير عنها بالأدوات التحليلية الاقتصادية، وتحديد دلالتها العملية في الموضوع.

0/3 لمن هذا البحث

هذا البحث مكتوب أساسا للمهتمين بموضوع تقويم المشروعات نظريا للتدريس والبحث العلمي في الجامعات، او علميا لاتخاذ القرارات الاستثمارية في وزارات التخطيط والمصارف الإسلامية والمؤسسات المتشابهة. وبعض إجزاء البحث ذات صلة وثيقة بنظرية السياسة الاقتصادية والسياسة الشرعية.

ورغم ان البحث عموما يفترض معرفة مسبقة بالنظرية الاقتصادية، لكن القسم الثاني منه، والأفكار الأساسية في الأقسام الأخرى، هي في متناول غير الاقتصاديين وبخاصة ذوي الثقافة الشرعية.

1-    دور القيم في الطرق التقليدية لتقويم المشروعات

لعل من أهم الاعتراضات على الطرق التقليدية في تقويم المشروعات انها لا تترك مجالا للتعبير عن القيم عموما والقيم الإسلامية خصوصا.

ونقصد بالطرق التقليدية لتقويم المشروعات مختلف الأساليب المبنية على التيار التقليدي المحسوم Discounted cash flow  وكذلك طريقة فتة الاسترداد payback period  .

ثمة مجالان على الأقل يمكن أن تؤثر فيهما القيم الاجتماعية على عملية التقويم في أي مجتمع مهما كانت عقيدته . أولهما وأظهرهما أن القيم الاجتماعية قد تحظر القيام بمشروع يعتبر مرغوبا من الوجهة الاقتصادية المحضة كزراعة الافيون مثلا. وثانيهما أن تلك القيم قد توجب القيام بمشروع يحقق أهدافا غير اقتصادية على الاطلاق (كبناء الاهرامات) .

وفيما عدا هذين المجالين، فإن طرق التقويم التقليدية لا تقيم وزنا إلا لقيمة واحدة هي: الكفاية الإنتاجية Efficiency  التي تعنى في هذا المقام على وجه التقريب تحقيق اكبر قيمة للإنتاج من استثمار معين، وفق أسعار السوق. (سنبين في الفقرة 2/4 أن الكفاية الإنتاجية هي إحدى القيم الإسلامية أيضا).

وقد لاحظ الاقتصاديون منذ زمن أنه حتى لتحقيق الكفاية الإنتاجية، لابد أحيانا من تعديل طرق التقويم التقليدية، خاصة في المشاريع العامة. ذلك أن أسعار السوق التي تقاس بها تكاليف المشروع ومنافعه قد لا تعبر بشكل صحيح عن التكاليف والمنافع الاجتماعية الفعلية، أي تلك التي تظهر عندما تسود المنافسة في كافة الأسواق.

والتعديل الذي يجري حينئذ هو أن نستعمل في تقويم المشروع أسعار محاسبية (أوAccounting prices)عوضا عن أسعار السوق، لتحقيق الكفاية الإنتاجية في اختيار المشروعات. وهدف هذا التعديل ليس ادخال قيم اجتماعية أخرى في تقويم المشروعات بل ضمان تحقيق نفس الهدف الوحيد وهو الكفاية الإنتاجية.

لذلك فان الأسعار البديلة المستخدمة عوضا عن أسعار السوق كثيرا ما تسمى أيضا أسعار كفية Efficiency Prices.

على أنه خلال العقدين الماضيين ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين الغربيين الى الاعتراف بسبب آخر لتعديل الطرق التقليدية في تقويم المشروعات وهو وجود اهداف اجتماعية (سوى الكفاية الإنتاجية) قد يكون تحقيقها أسهل أو أقل تكلفة عن طريق اختيار المشروعات منه عن طريق آخر كالضرائب.)2)

واهم هدف آخر حظي بالاهتمام هو هدف إعادة توزيع الدخل لمصلحة الفقراء أو باختصار هدف العدالة Equit. وهناك أهداف أخرى سواه أكدها البعض كالعمالة الكاملة وزيادة معدل نمو الدخل القومي، والتحديث Modernizationلكن من الضروري التأكيد على أنه لا يوجد حتى الآن قبول عام لهذا الاتجاه الجديد.

والسؤال الذي لابد من الإجابة عليه من وجهة إسلامية في هذا المجال هو: الا يكفي المجالان المشار اليهما في مطلع هذه الفقرة للتعبير عن القيم الإسلامية في تقويم المشروعات، خاصة إذا أضفنا اليهما معيار الكفاية الإنتاجية المرغوب إسلاميا والذي تضمن الطرق التقليدية تحقيقه؟ والجواب هو بالنفي كما سيظهر في الفقرات التالية. فلابد من طرق أكثر صراحة لإدخال القيم الإسلامية في عملية التقويم.

والاتجاه الجديد المنوه عنه أعلاه هو أقرب الى التصور في القيم الإسلامية ويمكن كخطوة أولى الاستفادة من الطرق الفنية التي اقترحت فيه للتعبير عن هذه القيم وإن كنا على قناعة بضرورة تطوير أساليب فنية خاصة لضمان ادخال القيم الإسلامية بصورة مؤثر في تقويم المشروعات.

2-    معايير إسلامية للمفاضلة بين المشروعات

ان المعايير الخمسة التالية تعبر بحسب فهمنا عن أهم القيم والاهداف الإسلامية الوثيقة الصلة بالاستثمار، أي تلك التي يمكننا عن طريق اختيار المشروعات الاستثمارية التأثير عليها بصورة واضحة.

المعيار الأول: اختيار طيبات المشروع وفق الأولويات الإسلامية

إن أول خطوة في اختيار المشروع الاستثماري هي تحديد طيباته أي السلع والخدمات التي ينتجها. ويظن كثير من الاقتصاديين المسلمين ان التقسيم الرئيسي للسلع (او الخدمات) من وجهة النظر الإسلامية هو تقسيم ثنائي:

خبائث أي سلع محرمة ممنوع انتاجها وتداولها، وما سواها فهو طيبات أي سلع حلال يباح انتاجها وتداولها. لكن هذا التقسيم رغم صحته قاصر جدا عن تصوير كامل الموقف الإسلامي من هذا الموضوع. ويتضح هذا الموقف اذا انطلقنا من مفهوم المصلحة الاجتماعية حسبما صاغه الامامان أبو حامد الغزالي (المتوفي سنة 505 هــ) ثم أبو اسحق الشاطبي (المتوفي سنة 790 هــ). فالإسلام يقدم تصورا محددا عما يعتبره حياة اجتماعية وفردية صالحة ويرسى لهذه الحياة أهدافا متدرجة في الأهمية. فكل الطيبات التي بد منها لتحقيق اهداف الحياة الإسلامية يعتبر توفيرها مطلوبا شرعا وليس مباحا فقط.

وتختلف درجة التوكيد والالتزام في توفير هذه الطيبات بحسب أهمية الهدف الذي تحققه في سلم الأهداف الإسلامية، فبعضها فرض او واجب وبعضها مستحب او مباح.

وقد وجه الامامان الغزالي والشاطبي من استقراء تعاليم الإسلام ان المصلحة الاجتماعية في الإسلام لها ثلاث مستويات: وقد شرح هذا الموضوع في بحوث أخرى فلا أفضل فيه الآن (3) ولكنى استخلص منه ان الأولويات الاقتصادية التفصيلية ذات العلاقة باختيار الطيبات الواجب انتاجها هي التالية مرتبة إسلاميا من الأهم الى المهم:

(أ‌)    توفير أمن المواطن (مسلما وغير مسلم) على حياته وعرضه وماله وحقوقه الإسلامية وتوفير الامن الخارجي للمجتمع. ويتطلب تحقيق هذا الهدف انتاج العديد من الخدمات الاجتماعية العامة من قبل الدولة أو من قبل الدولة او من قبل المتبرعين من المسلمين، كما يتطلب توليد الموارد المالية التي تدعو مثل هذا الإنتاج.

(ب‌)   توفير وسائل حفظ الصحة ومعالجة المرض.

(ت‌)   الغذاء والكساء

ويشهد لأهمية الأهداف الثلاثة السابقة أدله إسلامية متعددة من أصرحها قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ” من أصبح آمنا في سربه، معافي في دينه، مالكا قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.

(د) نشر المعرفة والتربية في أمور الدين والدنيا.

(هـ) المأوى.

ومن الممكن بالطبع الدخول في زمرة الحاجيات وتوسيع هذه القائمة. وربما أتى بعد المأوى مباشرة: المواصلات. لكن هدفنا ليس الاستقصاء بل إيضاح الفكرة.

إن تحقيق الحد الأدنى الإسلامي من كل هدف من الأهداف السابقة يعتبر من الضروريات فتوفير الطيبات التي يتطلبها يعتبر فرضا، وليس مجرد مباح.

وما زاد عن ذلك الحد الأدنى يعتبر تحقيقه من مستوى الحاجيات، فتوفير الطيبات التي يتطلبها يعتبر من قبيل السنة المؤكدة، والله اعلم.

وما فوق ذلك فمن مستوى التكميليات، وتوفير الطيبات التي يتطلبها هم من قبيل المستحب أو المباح بحسب أهميته.

ان توفير أي من الطيبات في المجتمع يتم بأحد طريقتين: انتاجها مباشرة أو المبادلة عليها مع مجتمع آخر عن طريق التجارة الدولية.

وعليه فإن الطيبات غير القابلة للمبادلة الدولية Non-traded goodsواللازمة لتحقيق الأهداف الإسلامية السابقة وأمثالها، يعتبر إقامة المشاريع التي تنتجها مطلوب شرعا طلبا يندرج من الفرض الي المستحب الي المباح.

وأما الطيبات التي يسهل مبادلتها دوليا فالمجتمع بالخيار ان شاء انتجها مباشرة أو أنتج سواها وبادل للحصول عليها.

وبعبارة أخرى ان المعيار الأول الذي نتحدث عنه ينطبق أساسا على الطيبات التي لا ينظر دخولها في التجارة الدولية لأي سبب اقتصادي أو سواه.

وإذا كان المشروع يمول من الموارد العامة للمجتمع (أي تقوم به الدولة) فلا يجوز شرعا بحال صرف هذه الموارد لإنتاج سلعة كمالية فبل كفاية كل فرد في المجتمع من السلع الضرورية (4).

ولرب سائل يسأل : ماذا عن المشاريع الخاصة؟ هل لنا أن نمنع انتاج السلع التكميلية قبل أن نوفر حاجة المجتمع من السلع الضرورية وإلحاجيه؟ لست أهلا للإجابة على هذا السؤال لأنه فقهي محض لكن هناك بعض المبادئ التي يبدو انه لا خلاف فيها.

(أ‌)    ان كان المشروع الخاص يحتاج الى دعم من الأموال (كشق طريق أو مساعدة مالية) فلا يجوز تقديم هذا الدعم إلا وفق الأولويات الإسلامية المطبقة على المشاريع العامة.

(ب‌)     هناك مجال واسع لولي الأمور لتشجيع المشاريع ذات الأولوية وتثبيط سواها. ولابد من تجريب الوسائل غير المباشرة قبل جواز اللجوء الى أسلوب التقييد المباشر.

(ت‌)    ان حق المسلم في مزاولة العمل الحلال (سواء كان ضرورياً كإنتاج الخبز أو كمالياً كإنتاج الازهار) حق صريح. ولا يجوز سلبه هذا الحق الا لسبب صريح راجح شرعا.

وربما كانت سلطة ولي الامر في جباية المال من المسلمين الزاما لتلبية حاجة عامة (كإنتاج الغذاء إذا تقاعس الناس عن ذلك لسبب ما) أصرح شرعا وأقوى من حقه في منع الناس من مزاولة انتاج حلال ضئيل الأهمية شرعا.

(د) على المسلم ان يعلم أنه حتى عندما يقوم بمشروع خاص من خالص ماله فإن درجة ثوابه عليه خاضعة للأولويات الإسلامية حتى ولو لم يكن من حق ولي الامر أو باستطاعته إلزامه بما هو أولى.

2/2 – المعيار الثاني: توليد رزق رغد لأكبر عدد من الأحياء

الرزق هو الدخل الحقيقي. والرغد هو الواسع الذي لا عناء فيه (انظر لسان العرب، ومفردات الراغب الاصفهاني). واستعملنا (الاحياء) بدلا من (الناس) لأسباب ستوضح فيما بعد. وقد تكرر في القرآن الكريم وصف (الراغد) على سبيل المدح مما يجعنا نتخذه أساسا في تفضيل الرزق المتصف به. (5).

(2/2/1) – سنبحث أولا في أولئك الذين يعتبرون من عناصر الإنتاج في المشروع أي الذين يقدمون له خدمات إنتاجية. فبعضهم يحصل على دخل احتمالي غير ثابت خلال فترة العقد (أجور وإيجارات) وبعضهم يحصل على دخل احتمالي غير ثابت (أرباح أو خسائر).

ان السعي لاكتساب الرزق لكفاية النفس والعيال هو واجب كل مسلم. وينبغي اعتبار المشروع أفضل كلما ساعد عددا أكبر من الناس على تحقيق هذا الواجب أي تحصيل دخل كاف إسلاميا. ولا يعني هذا انه يمكننا ببساطة تحقيق هذا الهدف الإسلامي بمجرد زيادة عدد العاملين في المشروع أو باستئجار مبنى أكبر أو مزيد من الأصول الأخرى الثابتة، لأننا لو فعلنا ذلك لوقع المشروع في خسارة. والخسارة تعنى حرمان مالكي المشروع من تحقيق هدف اكتساب الرزق (الأرباح)، بينما الإسلام يريد ذلك لهم ولسواهم. (6).

لكننا لو فاضلنا بين مشروعين مقترحين كلاهما رابح فإن ذلك الذي يقدم لعدد أكبر من الناس دخلا كافيا إسلاميا هو المفضل شرعا دون شك اذا تساوت باقي الاعتبارات.

فتوليد المشروع للرزق بصورة أجور وايجارات وارباح هو هدف إسلامي ريسي. ونظراً لان الأرباح هي موضوع هام يدور حوله جدل فيحسن أن نتناول بمزيد من التفاصيل.

ان تحصيل بعض الربح يعتبرا هدفا إسلاميا هاما للمشايع الخاصة، وان عدم الخسارة يعتبر هدفا إسلاميا هاما لتلك المشاريع العامة التي تبيع انتاجها.

خذ أولا المشروعات العامة أي الممولة من بيت المال. ان وقوع المشروع في خسارة مالية واستمراره في العمل رغم ذلك يعنى أنه يشكل ضريبة خفية على المسلمين الذين يدفعون الضرائب (أو يستحقون الفائض المتولد في بيت المال) لمصلحة المستفيدين من منافع المشروع. وكثيرا ما لا يكون هذا جائزا شرعا.

فمثلا ، لا أرى من الجائز شرعا تقديم الخدمات الهاتفية لمستعمليها بأقل من تكلفتها لأن ذلك يعنى أن جمهور الناس وكثير منهم ليسوا بأغنياء يتحملون خسارة الشبكة الهاتفية لمصلحة مستعمليها ومنهم الأغنياء.

ويستوي في عدم الجواز فيما أرى أن يجري تمويل الخسارة بالضرائب الظاهرة من أي نوع، أو بإصدار النقود مباشرة لمصلحة بيت المال، أو بصورة غير مباشرة عن طريق السماح لإدارة الهاتف بالاستدانة باستمرار لتغطية الخسارة. (7).

والحقيقة أن تحقيق بعض الربح لبيت المال (وليس مجرد عدم الخسارة) يعتبر هدفا إسلاميا رئيسيا إذا كانت موارد الدولة لا تكفي لأداء الواجبات المختلفة التي أناطها الشرع لولي الأمر، وكان الدخل الإضافي الذي يولده المشروع يساعد على أداء تلك الواجبات.

فاذا انتقلنا الى المشروع الخاص أي الممول من فرد أو أفراد، فإن استمرار وقوعه في خسارة محاسبية أي ظاهرة Accounting Loss سيعنى افلاسه عاجلا أو آجلا وبالتالي قسمة موجوداته بين دائنيه قسمه الغرماء وعلى الغالب ضياع بعض ديونهم عليهم. وان عدم تسديد الدين من أكبر المحرمات.

على ان الخسارة والافلاس لا يؤديان دائما الى ضياع بعض ديون الدائنين للمشروع بل قد يقتصر أثرهما على خسارة مالكي المشروع لبعض او كل أس مالهم. وهذا أيضا غير مرغوب شرعا. لما أسلفنا من أن الإسلام يريد لهم ولسواهم من عناصر الإنتاج اكتساب الرزق.

ولا يخفى ان الخسارة قد تقع في مشوع كان يظن رابحا حين دراسته وليس هذا موضوع منا قشتنا، بل موضوعها هو أن عدم الوقوع في خسارة وتحصيل بعض الربح: يعتبر هدفا إسلاميا رئيسيا عند اختيار المشروعات. ويحسن الانتباه الى ان هذا يختلف عن هدف البحث عن ” أقصى ربح” والذي لا نظنه هدفا مقبولا إسلاميا إلا في أحوال استثنائية. (8).

وخلاصة ما تقدم هو انه بالنسبة لعناصر الإنتاج في المشروع عاما كان أو خاصا، يعتبر الهدف الإسلامي هو: توليد دخل كاف إسلاميا لأكبر عدد من عناصر الإنتاج جميعها، ونقصد بالدخل الكافي ذلك المستوى المحدد فقها بأنه لا يجيز لصاحبه قبول الصدقة.

وقد احترزنا بكلمة (كاف) للتأكيد على أنه لابد من اعتبار مستوى الكفاية الإسلامي عند المفاضلة بين عدد العاملين في المشروعات المختلفة. وعلى سبيل المثال لو اعتبرنا ألف دينار في السنة هو حد الكفاية الإسلامي للفرد في بلد معين، وكانت أجور عشرين عاملا في المشروع هي بمعدل (500) دينار فإننا نحتسبهم على سبيل التقريب مكافئين لعشرة أشخاص فقط ينالون مستوى الكفاية.

 لكن كيف نحتسب عدد أولئك الذين ينالون أكثر من حد الكفاية؟ هذا موضوع طويل سنشير اليه باختصار عند بحث معيار مكافحة الفقر (2/3) الآتية.

2/2/2 – سنبحث الآن عن الرزق الذي يولده المشروع لمن ليسوا من عناصر الإنتاج فيه. ان منتجات المشروع من السلع والخدمات هي على نوعين: بعضها يباع في السوق، ويشكل ايراده دخلا لبعض عناصر الإنتاج في المشروع وقد سبق الكلام عنه. والبعض الآخر من منتجات المشروع أو منافعه لا يقبل البيع لسبب أو لآخر (9)، أو لا يعبر عنه سعر السوق تعبيرا صحيحا.

والمنطق الإسلامي يوجب تقويم أي عمل بمجموع آثاره وليس بعضهما تطبيقا لقوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يه ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)وقوله تعالى جوابا للسائلين عن الخمر والميسر ” قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما”. ومن أهم منافع المشروع الإضافية التي ينبغي احتسابها في حال وجودها:

(أ‌)     الآثار الخارجية External Economiesالموجبة والسالبة وقد أفاض الاقتصاديون في هذا الموضوع فاكتفى بالإشارة إليه. لكن لابد من التنويه الى ان الإسلام يضيف بعدا جديدا للموضوع بإيجابه احتساب الآثار الخارجية ليس على الناس فق بل على كل ذي كبد رطبة لقوله صلى الله عليه وسلم:

–     …. قالوا: يا رسول الله، ان لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ” في كل كبد رطب أجر”. متفق عليه (عن رياض الصالحين، رقم 126).

–     ” فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه انسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة الى يوم القيامة” رواه مسلم (عن رياض الصالحين رقم 135). وقال الامام ابن حجر شارحا ” ومقتضاه ان أجر ذلك يستمر مادام الغرس أو الزرع مأكولا منه ولو مات زراعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه الى غيره…” (فتح الباري، الحديث 2320، ج 5 ص 4).

وقد ذكر الامام النووي رحمة الله من مزايا الزرع ما فيه ” من النفع العام للآدمي وللدواب ولأنه لابد فيه كالعادة ان يؤكل منه بغير عوض …” (فتح الباري، الحديث 2070 ج 4 ص 303). وهذا مثل رائع لسمو هذا الدين وشمول رحمته الخلق كلهم. ولهذا اخترنا في عنوان هذه الفقرة: توليد الرزق لأكبر عدد من الاحياء.

ب-فائض المستهلك Consumer Surplus في حال انخفاض سع السوق بصورة محسوسة نتيجة زيادة الإنتاج بسبب المشروع. وهذا الموضوع مفصل في كتب الاقتصاد فتكتفي بالإشارة اليه.

2/2/3 – ومن المستحب عند المقارنة بين المشروعات بحسب الرزق الرغد الذى تولده ان نفضل الرزق عن طريق العمل على غيره من أنواع الرزق المتولد في المشروع تطبيقا لقوله صلى الله عليه وسلم ” ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يده” رواه البخاري. وانظر في شرحه: فتح الباري (ج4، ص 303 -306). ويمكن التعبير عن ذلك عمليا في تقويم المشروعات بأن نعطي وزنا اكبر للرزق المترافق مع العمل (الأجور، وارباح الشريك المضارب، الخ .) بالمقارنة مع الرزق غير المترافق مع العمل (الإيجارات، وارباح ب المال في شركة المضاربة الشرعية الخ.) والعمل المقصود كما أوضح صاحب الفتح يشمل عمل اليد وسواه كالعمل الفكري.

2/3 – المعيار الثالث: مكافحة الفقر وتحسين الدخل والثروة

لا حاجة بنا الى البرهنة على ان مكافحة الفقر هي من اهداف الإسلام الرئيسية. وإن احكام الزكاة واحكام النفقات الواجبة بين الأقارب لتقديم الكثير من التوجيهات حول مفهوم الفقر وتعريفه.

ويمكن لتقويم المشروعات ان يساهم في مكافحة الفقر بطريقتين: أولهما، هو ان اختيار الطيبات الى ينتجها المشروع وفق الأولويات الإسلامية سيعطي وزنا أكبر لإنتاج السلع والخدمات التي تصنف ضمن الضروريات والحاجيات (وهي التي ينفق الفقراء غالب دخلهم عليها)، مما يساهم في تخفيض أسعارها وزيادة فائض المستهلك المتولد منها.

وثانيهما:هوإعطاء وزن أكبر للدخل الي يولده المشروع ويذهب الى الفقراء فالإسلام يعطي أهمية أكبر بكثير للدخل الذي يحقق لصاحبه مستوى الكفاية بالمقارنة مع الدخل الذي يتجاوز ذلك، مما يوجب علينا عند تقويم الرزق المتولد لعناصر الإنتاج في المشروع ان تعطي وزنا أكبر للدخل الذي يحقق الكفاية أو يقل عنها بالمقارنة مع الدخل الذي يزيد عن مستوى الكفاية.

وقد فصل بعض الاقتصاديين الأساليب العملية لذلك في تقويم المشروعات فيمكن الاستفادة من أبحاثهم (10) الى حين صياغة أساليب تنطلق مباشرة من التصورات الإسلامية في هذا المجال.

والاقتصاديون غالبا ما يعبرون عن هدف مكافحة الفقر بعبارة ” تحسين توزيع الدخل” لكننا نفضل من وجة إسلامية التمييز بين الامرين رغم الصلة بينهما.

فضمان الضروريات لكل فرد في المجتمع ومكافحة الفقر هو اشد تأكيدا في سلم القيم الإسلامية من تحسين توزيع الدخل أي تخفيف تفاوته.

كما نفضل من وجهة إسلامية التأكيد على تحسين توزيع الدخل والثروة (وليس الدخل فقط كما هو شائع بين الاقتصاديين) لأن مستند هذا الهدف قوله تعالى (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) والضمير في ” يكون” يعود الي المال وهو يشمل الدخل والثروة.

لكننا على الرغم من تميزنا بين المفهومين جمعنا بينهما في معيار واحد هنا لأن التعبير العملي عنها عمليا في تقويم المشروعات هي طريقة واحدة أشرنا اليها أعلاه.

2/4 – المعيار الرابع: حفظ المال وتنميته

نقص بالمال الثروة بمعناها الاقتصادي الذي يشمل الموارد الطبيعية والأصول المصنوعة. ان استخدام كمية الموارد والعمل تزيد عن الحد الأدنى الكافي لتحقيق هدف معين هو من الاسراف المهني عنه. ومفهوم حفظ المال وعدم الاسراف في الإسلام يقابله تقريبا لدى الاقتصاديين مفهوم (الكفاية Efficiencyفي استعمال الموارد) الذي يعرفه الاقتصاديون الغربيون جيدا، بل يكادون لا يعرفون سواه. وغالبا ما يعتبرونه المعيار الوحيد لتفضيل وضع اقتصادي على آخر.

أما في الاعتبار الإسلامي فهو هدف هام لكنه ليس الهدف الوحيد ولا الأول. ويلاحظ ان الامام الغزالي يراه من المقاصد الإسلامية الخمسة الكبرى وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

واستنادا الى هذا المعيار يمكننا ان نرفض إسلاميا معايير التقويم التي تؤدي الى اختيار مشاريع غير كافيه اقتصاديا. ومثال ذلك معيار فترة الاسترداد. كما يمكننا أن نؤكد ضرورة أخذ فرص التبادل الدولي بالحسبان لان من المعلوم اقتصاديا ان تجاهلها يؤدي ( على نطاق الاقتصاد بمجموعه) الى مستوى اقل من الدخل القومي عند استخدام نفس الكمية من الموارد.

ولن نورد الأدلة على أن تنمية المال هي هدف إسلامي معتبر فقد فصل في ذلك العديد من الباحثين. وقد أدرجناه مع هدف حفظ المال لأنه القيمة الحالية الصافية للمشروع تعبر عنه أيضا الى حد ما، وان كانت الطريقة الادق في التعبير عنه لميا حسبما اقترح بعض الاقتصاديين هي التمييز في الدخل الذي يولده المشروع بين ما سيذهب للاستهلاك، وبين ما سيذهب للادخار والاستثمار. فيعطي هذا الأخير وزنا أكبر في عملية التقويم.

2/5 – المعيار الخامس: رعاية مصالح الاحياء من بعدنا

من المعلوم في الدين ان جزاء الاعمال يرتبط بأثرها ليس فقط في حياة الانسان بل بعد موته الى يوم القيامة. لذلك فإن الأفق الزمني الذي يشمله اهتمام المؤمن باليوم الآخر أوسع مدى من الأفق الزمني للكافر. وفي الحديث الصحيح: ” إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية او علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”.

ويؤكد هذا المعنى ما أشاد به القرآن الكريم من تعاطف أجيال المؤمنين وتراحمها عبر الزمان (… والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان…) وقد استند سيدنا عمر (رضى الله عنه) الى هذه الآية في عدم تقسيم أراضي العراق على الفاتحين بل فرض الخراج عليها لمصلحة أجيال المسلمين المتعاقبة وقال لمن خالفه ” تريدون ان يأتي آخر الناس ليس لهم شيء فما لمن بعدكم؟”

وكان مما رأى مثل رأي سيدنا عمر أيضا سيدنا على (رضي الله عنه)، وسيدنا معاذ (رضي الله عنه) الذي قال له: ” أنك ان قسمتها صار الربع العظيم في أيدي هؤلاء القوم. ثم يبيدون فيصير ذلك الى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجيدون شيئا، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم” (11).

فإذا انتقلنا من نطاق المجتمع كله الى نطاق الاسرة الواحدة وجدنا هذا المعنى نفسه يؤكد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ” إنك ان تدع ورثتك أغنياء خير من ان ندعمهم عالة يتكففون الناس في أيديهم (متفق عليه).

ثم إذا انتقلنا من نطاق البشر الى نطاق من سواهم من الاحياء وجدنا حديث الرسول الكريم الذي اوردنا آنفا في شأن الزرع وتأكيده على استمرار ثوابه ما بقي نافعا لإنسان أو حيوان الى يوم القيامة.

فواضح مما سبق ان تقويم المشروع إسلاميا يجب أن يحتسب فيه آثاره على مصالح الاحياء من بعدنا مهما بعدوا. لكن الاقربين أولى بالمعروف، ولعل هذه القاعدة تبرز إعطاء أهمية متناقضة مع الزمن لمنافع المشروع المتولدة لمن يأتي بعدنا.

هناك مشروع لسد مائي مقترح يولد منافع قدرت بألف درهم لكل سنة من عمره المتوقع وهو ستون سنة. فيكون مجموعها الحسابي هو ستين ألف درهم. ويمكن بزيادة في التكاليف انشائه تصميمه بحيث يطول عمره ستون سنة أخرى يولد خلالها المقدار نفسه من المنافع أي ألف درهم كل سنة، بمجموع قدره ستون ألف درهم أيضا. لنفرض أيضا للتبسيط أن تكاليف انشاء السد ستنفق كلها في مطلع السنة الأولى. أما منافعة فيلخصها الجدول التالي:

الفترة الأولى

السنوات الستون الأولى 1-60

الفترة الثانية

السنوات الستون الثانية

61-120

المنفعة السنوية

ألف درهم

ألف درهم

مجموع المنافع خلال السنوات الستين

(60) ألف درهم

(60 ألف درهم)

القيمة الحالية لمجموع (12) المنافع خلال السنوات الستين (بمعدل 10%) حسم

(9967) درهما

(33) درهما فقط

يمكننا القول على سبيل التبسيط ان منافع الفترة الأولى (السنوات من 1 الى 60) ومجموعها (60) ألف درهم تعود الى الجيل الحالي وبعد الحسم تبلغ قيمتها الحالية (9967) درهما.

فإذا نظرنا الى الفترة الثانية (السنوات 61 الى 120) وجدنا مجموع منافعها (60) ألف درهم أيضا تعود الى الجيل القادم لن قيمتها الحالية هي (33) درهما فقط.

فبحسب معيار القيمة الحالية لاختيار المشروعات، سيرفض الجيل الحاضر إطالة عمر السد لفترة الستين سنة الثانية إذا كان ذلك يكلف الآن أكثر من (33) درهما رغم المنافع الكبيرة التي يتوقع أن يجنيها منه الجيل القادم.

ان معيار القيمة الحالية قد قوم المنافع التي تعود للجيل الحالي بما يقارب (10) آلاف درهم بينما قوم نفس المنافع للجيل القادم بـ (33) درهما، أي بنسبة (300) الى (1) تقريبا.

وخلاصة القول هي أن معيار القيمة الحالية يركز الاهتمام على الجيل الحاضر ولا يقيم إلا وزنا تافها لآثار المشروع على الأجيال القادمة. وتزداد هذه المشكلة حدة كلما طال عمر المشروع وكلما ارتفع معدل الحسم. وهذا من جملة الأسباب التي حملت بعض الاقتصاديين على تحييذ اختيار معدل للحسم يقل عن المعدل السائد في السوق بالنسبة للمشاريع العامة. والذي أراه هو أن تخفيض معدل الحسم يخفف المشكلة فقط ولا يحلها تماما بالنسبة للمشاريع الطويلة العمر. (13)

لكن تقويم المشروعات في إطار إسلامي يتلافى المشكلة من أساسها لأنه لا يعتمد القيمة الحالية الصافية بأسعار السوق كمعيار وحيد. بل يوجب النظر الى المسألة أيضا من زاوية أخلاقية وإنسانية تأخذ مصالح الاحياء من بعدنا في الاعتبار.

وفي ختام استعراضنا للمعايير الخمسة، نشير الى أن اختيارنا لها هو اجتهاد نرجو ان يكون قريبا من الصواب، ونرجو أن ينبهنا الباحثون والمتخصصون في الشريعة الي معايير هامة أخرى يمكن اضافتها اليها.

3-    التعبير رياضيا عن المعايير الإسلامية بدالة مصلحة

ان تعدد المعايير الإسلامية في نطاق تقويم المشروعات يثير التساؤل عن كيفية مراعاتها جميعا في آن واحد. فكيف نفاضل مثلاً بين مشروعين أحدهما يساهم كثيراً في حفظ المال وتنميته، لكنه لا يقدم الا القليل من فرص العمل للفقراء، بينما الآخر يفعل العكس.

ان الطريقة الأساسية في هذا الشأن وفي كل الشؤون البشرية التي تتعدد فيها الاعتبارات والمعايير هي طريقة المحاكمة الذهنية الدقيقة. وتتحلى بأخذ العديد من الآثار الجزئية بعين الاعتبار. لكن يعيبها انها ضمنية غير صريحة، وشخصية تتفاوت كثيرا من انسان لآخر، فتفسح مجالاً واسعاً للأختلاف وتحول دون تحقيق اللامركزية في اتخاذ القرارات الاستثمارية.

لكن هناك طريقة أخرى مفيدة نشرحها في الفقرات الآتية، وبها تصبح المحاكمة الذهنية صريحة واضحة وأكثر موضوعية، وهي تقييس دالة مصلحة إسلامية ثم استخدامها في تقويم المشروعات. وهذه طريقة مناسبة تماما للمصارف الإسلامية ووزارات التخطيط وسواها من المؤسسات التي تتخذ القرارات الاستثمارية.

تقييس دالة مصلحة إسلامية

نقصد بالتقييس Standardizationالتعبير كميا عن فكرة أو مبدأ عام باستخدام معيار معين. وهدف هذه الفقرة البرهنة على إمكانية تقييس دالة مصلحة تعبر عن المعايير الإسلامية المتصلة باختيار المشروعات.

ونشرح فيما يلي الخطوات الرئيسية لطريقة التقييس التي نقترحها:

الخطوة الأولى:اختيار صيغة رياضية مناسبة للتعبير عن دالة الهدف أي دالة المصلحة الإسلامية. وعلى سبيل المثال. لو اعتبرنا الصيغة الخطية (أي معادلة من الدرجة الأولى) مقبولة فان دالة الهدف ستكون:

ع = ن1 هـ1+ … + ن هـ

حيث ع هو مؤشر المصلحة و ( هـ1، ….هـ) هو مقدار تأثير المشروع على كل من الأهداف الإسلامية (1) الى (ر)، و ( ن1، ن2،… ن ر) هو الوزن أو الترجيح الرقمي الذي يعبر عن درجة الأهمية الإسلامية لكل هدف.

ولو كنا نعلم قيم المعاملات (ن1، …. ن ر) ثم حددنا – نتيجة دراسة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للمشروع مقدار تأثيره رقميا على الأهداف (هـ1،…، هـ ر) فيمكننا بتعويض هذه الأرقام في العلاقة السابقة استنتاج قيمة ( ع ) التي يمكن ان تعتبر العلامة التي نالها المشروع من وجهة النظر الإسلامية . وكلما ارتفعت (ع) كان المشروع أفضل. وبمقارنة (ع) بين مشروع وآخر يمكن ترتيب المشروعات حسب درجة أهميتها.

وهذه هي إحدى الطرق العملية لاستخدام دالة المصلحة بعد تقييمها.

والسؤال هو: كيف نتوصل الى (هـ) والى (ن)؟

الخطوة الثانية:

اختيار مقياس رقمي مناسب للتعبير عن كل من الأهداف الإسلامية (هـ1) الى (هـ ر)، حتى يمكن التقدير الرقمي لمدى تأثير المشروع المقترح على كل هدف. وقد المحنا عند شرح بعض المعايير الخمسة المقترحة الى المؤشرات الرقمية التي يمكن ان تقاس بها، وتفصيل ذلك يخرج عن نطاق هذا البحث.

لكن بعض القاء قد يساورهم الشك في إمكانية التعبير الرقمي عن المعيار الأول وهو اختيار طيبات المشروع وفق الأولويات الإسلامية. لذلك سنبين الآن أحد أساليب القياس الممكنة له وهو أسلوب المتغيرات الصورية المستخدم على نطاق واسع في دراسات الاقتصاد القياسي Econometrics(انظر مثلا Johnston, pp. 176-186).

يمكننا الانطلاق من التقييم الذي صاغه الامام الغزالي ، وتصنيف الخدمة أو السلعة الرئيسية التي ينتجها المشروع ضمن احدى الزمر الثلاث: ضروريات ، حاجيات ، او تكميليات.

ويكفي متغيران Dummy Variables  للتعبير عن ثلاث زمر. فلماذا كانت السلعة التي ينتجها المشروع من الضروريات ، اخذ المتغير الصوري الأول قيمة ( الواحد) الصحيح والا اخذ القيمة (  صفر)، وان كانت تصنف في الحاجيات أخذ المتغير الثاني قيمة الواحد. وان كانت تصنف ضمن التكميليات اخذ كلا المتغيرين القيمة ( صفر) .

وتظهر هذه الطريقة مبدأ هاما من مبادئ القياس هو إمكانية التعبير رقميا عن اهداف وصفية محضة، أي عن اهداف لا يمكن التعبير عن تحققها بأكثر أو أقل ، بل فقط بنعم أو لا.

ومن الممكن زيادة عدد الزمر النوعية الى أي حد نريده للتعبير عن الأولويات الإسلامية بدرجة مناسبة من الدقة. فعوضا عن ترك الحاجيات كلها في زمرة واحدة يمكن تقسيمها الى زمر فرعية متدرجة الأهمية، وهكذا.

وعلى هذا الأساس، فان الدراسة الخاصة بكل مشروع ستعطينا قيم المتغيرات: ( هـ1، هـ2 ، … هـ ر).

الخطوة الثالثة:تقدير الاوزان ( ن1، …..، ن ر) التي هي ثوابت المعادلة.

لا استبعد إمكانية اختيار القيم النسبية لبعض الاوزان بالمناقشة الشرعية والاقتصادية الدقيقة. ( 14) لكن ذلك ان أمكن فهو قبيل الاستثناء . أما الطريقة التي نقترحها الآن فهي عامة يمكن دوما اتباعها وتعتمد على الاستنتاج الرياضي للأوزان من التفضيلات الفعلية التي يعبر عنها متخصص في الشريعة بالنسبة الى مجموعة من المشاريع الاستثمارية المعروضة عليه.

لنفترض أن لدينا ثلاثة اهداف إسلامية وثلاثة من المشاريع الاستثمارية، وإن دراسة الجدوى لكل مشروع قدرت رقميا ( هـ1 ، هـ2، هـ3) أي أثره المتوقع على كل هدف.

لنطلب الآن من متخصص في الشريعة استعراض المشاريع المذكورة وملاحظة آثارها على الأهداف الإسلامية المحددة، ثم إعطاء كل مشروع علامة ( ع ) بين الصفر والمائة تعب حسب قناعته عن أهمية المشروع من الوجهة الشرعية. وبذلك نحصل لكل مشروع على: ( ع ) علامة هي مؤشر على أهمية الشريعة في رأي المختص.

( هـ1، هـ2، هـ3) مؤشرات أثر المشروع على كل هدف.

إن هذه المعلومات هي كل ما يلزمنا لنستنتج رياضيا الاوزان ( ن1، ن2،ن3) التي تعبر عن الأهمية الشرعية للأهداف المختلفة، لأن أبسط حالة هي أن يكون لدينا عدد المشاريع يساوى بالضبط عدد الأهداف الإسلامية :

ع1= ن1 هـ1 + ن2 هـ2 + ذ3 هـ3

ع2 = ذ1 هـ1+ ن2 هـ2 + ن3 هـ3

ع3 = ذ1 هـ1 + ن2 هـ2 + ن3 هـ3

فهذه ثلاثة معادلات خطية بثلاثة مجاهيل (ن1، ن2،ن3) يمكن حلها لتحديد قيم المجاهيل.

ان هذا هو أساس الطريقة التي نقترحها (5) وقد بينا شرحنا على بعض الافتراضات التبسيطية التي يمكن الآن التحرر منها. وأولها افتراض ان عدد المشاريع يساوي عدد الأهداف. فالواقع ان عدد المشاريع عادة أكبر بكثير من الأهداف.

وفي هذه الحالة يمكننا عوضا عن الحل الجبري المخض للوصول الى الثوابت (ن) أن نتبع طريقة المربعات الصغرى المعروفة وعندها تصبح هذه الثوابت معاملات الانحدار المتعدد للتابع (ع) على المتغيرات (هـ) . أما إن كان عدد المشاريع أقل من عدد الأهداف (وهذه حالة غير واقعية) فإن التوصل الى قيم (ن) لا يعود ممكنا.

وعليه فإننا نستطيع زيادة عدد الأهداف بشرط أن يبقى عدد المشاريع أكبر منها.

ويمكن بسهولة التخلي عن الصيغة الخطية لدالة الهدف واختيار أية صيغة رياضية للتقدير بطريقة المربعات الصغرى وامثالها من طرق التقدير الإحصائية. كما يمكن التخلي عن افتراض ان يقوم خبير واحد في الشريعة بتحديد علامات المشاريع المختلفة. فلا مانع من تعدد الخبراء وحينئذ يمكن إعطاء كل مشروع علامة عي الوسط الحسابي لتقدير مختلف الخبراء.

3/2 – اختيار موضوعية تقييسنا لدالة المصلحة:

ولابد من التساؤل:إلى أي حد تعتبر الأوزان (ن) التي نتوصل إليها أوزاناً موضوعية تعبر عن حقيقة موقف الشريعة وليس عن مزاج المختص بالشريعة؟

ان الاوزان التي نحصل عليها تستند رياضيا ً إلى:

–         المتغيرات ( هـ 1، هـ2 …) التي قدمتها دراسة الجدوى لكل مشروع.

–         العلامة ( ع ) التي أعطاها الفقيه لكل مشروع.

وستتغير الاوزان إذا تغير هذا العنصران. ومن السهل على الكثيرين تصور إمكانية التقدير الاقتصادي الموضوعي لآثار المشاريع لكل قد يصعب عليهم تصور إمكانية العبير الموضوعي عن التفضيل الشرعي للمشروع بعلامة بين الصفر والمائة.

أفلا تتأثر هذه العلامات إلى حد بعيد بالتفضيلات الشخصية لإخصائي الشريعة بحيث يختلف تقديرها بين أخصائي وآخر. بل ربما تغير رأي الاخصائي الواحد بين زمن وآخر.

الجواب هو أن هذه التقديرات ليست إلا فتوى من عالم الشريعة. ولا مرية في أن الفتاوى والاحكام القضائية تختلف في نفس القضية بين شخص وآخر. لكننا نتوقع تقاربها كلما كان المفتون أو القضاة ملتزمين بمفاهيم مشتركة للحق والعدل ومتقاربين في عملهم بواقع الحال. ونخن نتوقع بل نفترض في الطريقة المقترحة تقارب تصورات وتقديرات علماء الشريعة لوجود قاسم مشترك كبير من المفاهيم الإسلامية والفقهية. ومن الممكن اختبار صحة هذا الافتراض رياضيا بقياس معامل الارتباط الاحصائي بين العلامات التي أعطاها اثنان من رجال الشريعة لنفس المشاريع ، ثم الاختبار الاحصائي لما إذا كان هذا المعامل يختلف معنوياً عن الصفر أو أية قيمة مناسبة سواه.

وهناك اختبارات إحصائية أخرى أفضل مما ذكرنا يمكن استخدامها لنفس الغرض لكن لا فائدة من تفصيلها هنا.

فإذا هر أن معامل الارتباط منخفض دل ذلك على أن الاوزان لا يمكن الركون إليها موضوعيا. ومن المتصور حينئذ أن يكون سبب انخفاضه أحد أمرين:

(أ‌)    وجود تفاوت كبير في فهم مقاصد الشريعة. وهذا ما نستبعده كلما كانت الأهداف الشرعية المختارة أهدافاً كبرى رئيسية.

(ب‌)                       قصور الأهداف التي أخترناها عن التعبير عن المقاصد الرئيسية للشريعة، أو قصور المقاييس ( هـ ) التي عبرنا بها عن تلك الأهداف، مما يترك مجالا واسعاً للتفاوت في تقدير الأهمية الشرعية لكل هدف.

أما إذا ظهر ان معامل الارتباط مرتفع الى حد مناسب، كان هذا قرينه قوية على ان الاوزان تعبر عن موقف الشريعة أكثر منها عن شخصيات المتخصصين. فيمكن استخدامها بعدئذ في تقويم مشروعات أخرى جديدة.

وفي ختام موضوع التقييس يجدر بنا التحذير من توهم ان استخدام المعايير الإسلامية عملياً في تقويم المشروعات يتوقف على تقييس دالة المصلحة الإسلامية. فهذا غلط دون شك. لأن استخدام هذه المعايير ممكن دوماً بالمحاكمة الذهنية الدقيقة دون اللجوء للتقييس.

لكننا لا نشك في أن التقييس، فضلا عن كونه ممكنا دون ريب، وهو أيضا مفيد ومرغوب شرعاً، لأنه يساهم في إيضاح المفاهيم الإسلامية الاقتصادية ويسهل تطبيقها في واقع الحياة.

ولقد قال تعالى ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” (إبراهيم 14/4) والأرقام هي من أهم لغات هذا العصر، وجدير بنا أن نعبر عن بعض حقائق ديننا بهذه اللغة.

4-    كيف نستخدم دالة المصلحة في تقويم المشروعات

4/1 – الطريقة الأولى:

إن تقدير دالة المصلحة الإسلامية بالإضافة إلى دراسةالجدوى الاقتصادية والإسلامية للمشروع سيعطينا علامة بين الصفر والمائة لكل مشروع تعبر عن درجة أهمية أو منافعه الإسلامية. وحتى نبين كيف يمكن استخدام هذه المعلومات علينا أن نميز الحالات الرئيسية الثلاث في اختيار المشروعات الاستثمارية (16):

أ –اختيار مشروع واحد من بين عدة مشروعات بديلة.

ب- اختيار عدد من المشروعات من بين مجموعة كبيرة من المشروعات.

ج- قبول أو رفض مشروع واحد.

ففي الحالة الأولى يكفي ان نختار المشروع الأعلى علامة. وفي الحالة الثانية سنفترض لتبسي المناقشة ان المشروعات المختلفة مستقلة بعضها عن بعض وان لدينا ميزانية استثمارية محددة (17) فضمن هذه الشروط يمكن البرهنة على ان المعيار المفضل هو ترتيب المشاريع بحسب نسبة علامة المشروع ـــــــــــ حتى نستفيد الميزانية القيمة الحالية لتكاليفه المحددة ( SAAAONE, PP. 19-21) . وهذه الحالة الثانية كثيرة الوقوع في الحياة العلمية في مؤسسات التمويل ووزارات التخطيط التي تتخذ قراراتها الاستثمارية في مواعيد زمنية معينة، كمطلع كل سنة أو خمس سنوات، فيتم في كل موعد اختيار بعض المشاريع لتنفذ في الفترة المقبلة، ضمن حدود الميزانية الاستثمارية لتلك الفترة.

اما الحالة (ج)فلابد فيها من تحديد علامة مسبقة ” للنجاح ” بحيث يقبل المشروع إذا بلغت علامته مستوى النجاح.

وخلاصة هذه الفقرة هي ان من الممكن إعطاء علامة للمشروع استناداً إلى دالة المصلحة الإسلامية، ثم اتخاذ قرار بقبول المشروع أو رفضه استناداً لهذه العلامة وحدها، أو استنادا إليها مع مستوى محدد مسبقا للنجاح.

وخلاصة هذه الفقرة هي ان من الممكن إعطاء علامة للمشروع استناداً إلى دالة المصلحة الإسلامية، ثم اتخاذ قرار بقبول المشروع أو رفضه استناداً لهذه العلامة وحدها، أو استناداً إليها مع مستوى محدد مسبقا للنجاح.

لقد تعودنا تجاهل عدد من التفصيلات والمسائل المتصلة بالطريقة المقترحة لننقل جوهر الفكرة دون التباس. لكن هناك مشكلة على درجة كبيرة من الأهمية لا يسعنا تجاهلها وهي :

إننا حصرنا علامة المشروع بين الصفر والمائة. وقد يبدو لأول وهلة أن هذا ليس فيه بأس، ولكن الواقع خلاف ذلك. ولتوضيح خطوة المسألة بمثال بسيط:

قدم الينا مشروعان متشابهان من كل ناحية سوى أن احدهمايتلب استثماراً قدره ألف دينار، والآخر ينتج نفس السلع على نطاق أوسع ويتطلب استثماراً قدره مليون دينار. ولا يستبعد والحالة هذه أن تكون منافع المشروع الثاني أكبر بألف مرة من منافع الأول . لكن تقيدنا بعلامات تتراوح بين الصفر والمائة لا يسمح بالتعبير بسهولة عن هذه الحقيقة (18) لذلك – ولأسباب أخرى لن نخوض فيها – يفضل أن نستخدم دالة المصلحة بأسلوب ىخر لا يواجه هذه المشكلة.

وهذا الأسلوب الآخر يتضمن حساب القيمة الحالية الإسلامية والعائد الداخلي الإسلامي للمشروع.

4/2 الطريقة الثانية: حساب القيمة الحالية الإسلامية للمشروع.

لقد رحت معايير حسابية كثيرة لقبول أو رفض المشروعات مثل فترة الاسترداد ومعدل العائد الصافي .

Net average rate of return

international rate of returnوصافي القيمة الحالية. ونسبة المنافع الى التكاليف Benefit – Coast Ratioوسواها. لكن تبين للاقتصاديين بعد الكثير من التمحيص ان افضل معيار نظري وتطبيقي هو معيار صافي القيمة الحالية (19) ( ص ق ح) وسوف نركز اهتمامنا عليه. لكننا سنتعرض أيضا لمعدل العائد الداخلي لعلاقته بكثير من المتغيرات الاقتصادية وسهولة فهمه باعتباره نسبة مئوية تعبر عن معدل بح المشروع.

ان حساب ( ص ق ح) يتطلب استخدام معدل حسم.

discount rateوقد بينت في بحث آخر ( 20 ) أن معدل الحسم المطلوب يفضل اقتصاديا ويجوز شرعيا ان يكون هو معدل الربح ( أو بكلمة ادق العائد الداخلي) لاستثمار بديل حلال.

لذلك فسوف اقتصر على مناقشة كيفية ادخال القيم التي عبرت عنها دالة المصلحة الإسلامية – في حساب التدفقات النقدية Cash flow  للمشروع . فإذا أمكن ذلك فان ( ص ق ح ) لتلك التدفقات يصح ان تسمى صافي القيمة الحالية الإسلامية للمشروع . ان الريقة التي تقترحها لإدخال هذه القيم هي الطريقة التي طورها دد من الاقتصاديين وخلاصتها ان نختار كمية اقتصادية مناسبة بوصفها وحدة حسابية account numeraire or unit of  ونعبر بواسطتها عن أهمية كافة الأهداف التي نبتغيها، اقتصادية كانت تلك الأهداف ام غير اقتصادية. وبعبارة أخرى سنعبر عن ثمن كل هدف بدلالة تلك الوحدة الحسابية التي يعتبر ثمنها واحداً صحيحا بالتعريف.

فلو اخترنا استهلاك الفرد عند مستوى الكفاية الإسلامي كوحدة حسابية، ولنفرض انها تقابل سلعا وخدمات استهلاكية قيمتها الف دينار في السنة، فان علينا تسعير كافة الأهداف الإسلامية الأخرى بدلالة هذه الوحدة . ولابد من هذا التسعير سواء أكانت الأهداف الأخرى اقتصادية أو غير اقتصادية.

وقد يبدو هذا المطلب عسيرا حقا، لكنه في الحقيقة قد تم إنجازه عندما قدرنا دالة مصلحة إسلامية. فمن الممكن البرهنة بسهولة على ان هذه الدالة تعطينا ثمن أي هدف بدلالة أي هدف آخر. ولنبسط الشرح نفترض ان الدالة خطية، وتتضمن ثلاثة اهداف فقط:

ع = ن1 هـ1 + ن2 هـ2 / ن3 هـ3

وان تقديرها الرقمي كان: ع = 0.5 هـ1 + 3 هـ3 + 4.5 هـ 3

فهذا يدل على أن زيادة تحقيق الهدف الأول (هـ1) بوحدة واحدة يزيد منفعة المشروع الإسلامية بـ (0.5) علامة، بينما زيادة تحقيق الهدف الثاني والثالث بوحدة يزيد منفعة المشروع بـ (3) و (4.5) علامة على التوالي. ويمكننا القول:

باننا لو اتخذنا الهدف الأول وحدة للقياس فان:

–         زيادة وحدة الهدف الثاني تكافئ – في تأثيرها على منفعة المشروع – زيادة (6) وحدات من الهدف الأول.

(3

ـــــــــ = 6)

0.5

– وان زيادة وحدة من الهدف الثالث تكافئ زيادة (9) وحدات من الهدف الأول

)4.5

ـــــــــــ = 9)،

0.5

– وعليه فان ” ثمن ” وحدة من الهدف الثاني هو (6) وثمن وحدة من الهدف الثالث هو (9). أما ثمن وحدة من الهدف الأول فهو واحد صحيح لأنه اتخذ أساسا للحساب.

والنتيجة هي اننا بمجرد تقدير دالة لمصلحة نكون توصلنا أيا بصورة ضمنية الى ثمن كل هدف آخر، مما يسمح لنا بأن نستغني عن علامة المشروع ونقيس منافعه الإسلامية بصورة ملقة بدلالة هدف معين يتخذ وحدة حسابية.

وبعبارة أخرى ان الطريقة الأفضل لاستخدام دالة مصلحة إسلامية في تقويم المشروعات هي ان نستنتج منها اسعارا محاسبية إسلامية للأهداف المختلفة بدلالة أحد الأهداف ثم نعبر عن مجموع منافع المشروع الإسلامية كلها بوحدات ذلك الهدف الذي اتخذ وحدة حسابية.

ولنوضح الآن استنادا الى ما سبق طريقة حساب صافي القيمة الحالية الإسلامية للمشروع.

ان دراسة الجدوى للمشروع ستبين لكل سنة من سنوات عمره المتوقع آثاره على الأهداف الإسلامية التي تضمنها دالة المصلحة. فبعض هذه الأهداف تعبر عنه أصلا بوحدات نقدية. وسوف نستخدم الأسعار المحاسبية الإسلامية لتحويل مختلف وحدات القياس الى ما يساويها من الوحدات الحسابية المختارة مما يسمح حينئذ بجمعها او طرحها من بعضها للتوصل الي صافي منافع المشروع (أي مجموع منافعه ناقصا مجموع تكاليفه) لكل سنة. وهذا هو تيار المنافع السنوية الصافية Net Benefit Flow نتوصل الى صافي القيمة الحالية الإسلامية للمشروع. ولن تكون هذه القيمة الصافية محصورة بين الصفر والمائة بل يمكن ان تبلغ بضع وحدات في مشروع ما وملايين الوحدات في مشروع آخر.

ويمكننا استنادا الى تيار المنافع الصافية أيضا حساب معدل العائد الداخلي الإسلامي للمشروع بالطريقة المعروفة جبريا أو بيانيا.

5-    خطوة تطبيقية مقترحة ودور المصارف الإسلامية

كيف يمكن ان ننقل موضوع القيم والمعايير الإسلامية الى حيز الواقع عند اختيار المشروعات؟

أطن أن الطريقة العلمية والمؤثرة هي اعداد دليل للموضوع يوضح جوانبه النظرية باختصار، وجوانبه التطبيقية بتوسع، ويجب أن يتضمن الدليل حالة تطبيقية أو أكثر مفصلة بالأرقام.

لقد أنشئ البنك الإسلامي للتنمية من اجل دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية وفقا لأحكام الشريعة الغراء. كما ان المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز قد أنشئ لدعم وتنفيذ البحوث العلمية والتطبيقية في مجال الاقتصاد الإسلامي. وكم أتمنى ان يجري البنك الإسلامي للتنمية ومركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي والاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية على اعداد دليل إسلامي لتقويم المشروعات الاستثمارية، يمكن ان يسترشد به أي بنك إسلامي أو دولة مسلمة في اتخاذ قراراتها الاستثمارية.

وأرجو ان يكون اعداد مثل هذا الدليل واستخدامه عمليا في تقويم المشروعات تطبيقا في مجال الاستثمار لقوله الله تبارك وتعالى “قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”.

والحمد لله اولاً وآخرا والصلاة والسلام على رسوله الكريم.

الهوامش

1-    وبعبارة أخرى قد لا تنطلق بعض اقسام بحثنا على المشاريع الى تولد سلعا عامة public goods  كخدمات الدفاع وبرامج الإذاعة الخ.

2-    لمزيد من الآراء المؤيدة والحجج الإضافة انظر:

UNIDO pp.23 – 30

Sandom, pp.. 196, Squire pp3 -14

Weisbrod, pp. 400 – 401.

3-    للتوسع انظر : الزرقاء، محمد أنس، ص 156 وانظر أيضا بحثا ممتازا بالإنجليزية للأمريكي المسلم عثمان لولن O.Liewellynعن أفكار الغزالي والشاطب في هذا الشأن.

4-    انه لمما يحز في النفس ويستنكر أشد الاستنكار ما يرى أحيانا من انفاق لموارد العامة على مشاريع كالمسرح القومي ودار الاوبرا والتليفزيون الملون في مجتمعات سكانها مسلمون، وكثير منهم لا يقرأ ولا يكتب ولم يحصل على الماء غير الملوث ولم يتعلم بعد مبادئ الطهارة والنظافة ولا أصول دينه.

5-    ومؤدى ذلك عمليا تفضيل الرزق الأكثر على الرزق الأقل اذا استويا فيما عدا ذلك. ومؤداه أيضا الانتباه الي تخفيض الرزق الإجمالي بحسب المشقة والعناء أي التكاليف الحقيقية التي بتطلبها ، حتى نصل الى الرزق الصافي من التكاليف أي الرزق الرغد.

6-    في الصناعة التنافسية غالبا ما يعتبر تحقيق المشروع لربح عادي قرينة على حسن استخدامه لعناصر الإنتاج المختلفة، كما تعتبر الخسارة على العكس.

وهذه حجة اقتصادية تضاف الى الحجة الشرعية أعلاه.

7-    على أنه كانت بيعة المشروع تحيز تمويله من فائض بيت المال ومن الضرائب فلا مانع شرعا من وقوعه في خسارة مادام سبب الخسارة هو تقديم خدماته للمستفيدين مجانا أو بأقل من تكاليفها الحقيقية وليس سبب الخسارة استخدام المشروع لعناصر الإنتاج .

8-    قد يظن انه لا حاجة للنص على هدف تحقيق الربح للمشروع الخاص باعتبار أن حافز المصلحة الذاتية يضمن ذلك لكننا ذكرناه لسببين: أولهما زعم البعض أن البحث عن الربح غير مستحب إسلاميا وهذا غلط.

وثانيهما أن من الضروري بيان الموقف الإسلامي من الحوافز الذاتية لأن بعضها تدعو الشريعة الى مقاومته وعدم الاستجابة له وبعضها تقره وتنمه. والربح المقبول إسلاميا هو بالطبع الذي لا يشوبه الاحتكار ولا الاستغلال.

9-    كالمنظر الجميل والرائحة الذكية لمشتل الزهور والتي لا يمكن تقاضي مقابل عنها من جيرانه. وعكس ذلك الضجيج الذي يولده مشغل الحدادة والذي لا يتحمل بسببه تكلفه رغم انه يخفض منافع الجيرانه.

10-     انظر مثلا UNIDOوكذلك SQUIRE.

11-    نقلا عن: الزرقاء، مصطفى أحمد، ج 1 فقرة 52 حاشية.

12-     القيمة الحالية لتيار دخل سنوي ( ل ) يحسب من العبارة :

ل * }1- (1 + ) – ن {

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

           م

حيث ( م = ر. ) معدل الجسم

و ( ن ) عدد السنوات

13-                       ففي مثالنا السابق لو خفضنا معدل الجسم الي 5% مثلا فإن القيمة الحالية لمجموع منافع السنوات الستين تصبح ( 18929 ) ألف درهم للفترة الأولى و ( 1013) درهما للفترة الثانية أي بنسبة (100) الى (5) بين الجيلين الأول والثاني. واحسب ان هذه النسبة مازالت مرتفعة جدا من وجهة نظر إسلامية.

14-                       لقد حاولنا هذا فعلا بالنسبة لهدف مكافحة الفقر وتحسين توزيع الخل والثورة وتوصلنا الى بعض النتائج التي تدل على إمكانية ذلك.

15-                       استفدنا في هذه الصياغة من بحث (Weisbrod) لكن الطريقة التي يقترحها غير قابلة للتطبيق على دالة المصلحة الإسلامية لأسباب يطول شرحها، مما دفعنا الى اتخاذ بحثه نقطة انطلاق فقط للطريقة التي نقترحها والتي هي أكثر عمومية من طريقته واقل اعتماداً على الافتراضات التبسيطية. لكن يبقى له فضل السبق.

16-                       انظر p.25 ,SASSONE and SCHAFFER.

17-                       معنى استقلال المشروعات عن بعضها هو ان علامة أو منافع أي من المشاريع لن تتغير سواء نفذنا أيا من المشروعات الأخرى .

18-                       وهذا يقتضي أن المشاريع المختلفة المعروضة على الخبير الشرعي لكي يضع علامة لكل منها يجب ان لا تتفاوت منافع أصغرها عن اكبرها بنسبة اكثر من ( 1) الي (100).

19-                       الا في حالة التقيد بميزانية استثمارية محددة مسبقا فإن معيار نسبة المنافع الى التكاليف يعتبر هو المفضل ، ويقصد به عادة نسبة

القيمة الحالية للمنافع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القيمة الحالية للتكاليف

انظر مثلا 25-13 SASSONE ,PP.

20 M.A. ZARQA:” project Evaluation in Islamic Framework”

بحث مقدم الى الندوة اللاحقة لاقتصاديات النقود والمالية في الإسلام والى ستعقد في اسلام أباد في 6 – 11/1/1981 م

مراجع

1-    ابن حجر العسقلاني :فتح الباري شرح صحيح البخاري . طبعة إدارات البحوث والافتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية.

2-    النووي ، الامام شرف الدين: ياض الصالحين، الطبعة – المنشورة بتحيق وتعليق الدكتور صبحي صالح بعنوان : منهل الواردين شرح رياض الصالحين، دار العلم للملايين – بيروت – 1976 ط3.

3-    الزرقاء، مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام،الطبعة الثامنة، دار الحياة، دمشق 1384 = 1964م.

4-    الزرقا، محمد أنس : ” صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك” . في : الاقتصاد الإسلامي: بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، المركز العالمي لابحاث الاقتصاد الإسلامي – جامعة الملك عبد العزيز – جدة 1400 هـ = 1980 م.

5-    J. Johnston, J., Econometric Methods, 2nd ed., Mc Graw – Hill, N.Y. 1972.

6-    Squire, L. and Van Der Tak, H.G., Economic Analysis of Projects, World Bank and J. Hopkins U. Press, Baltimore, 1975.

7-    Unido, Guidelines for Project Evaluation , U.N., New, York, 1973.

8-    Llewellyn, Othman B.,The Objectives of Islamic Law and Adinistrative Planning for Agriculture Land Use ,” Unpublished manuscript, 1980.

9-    Weisbrod, B.A., “ Deriving an Implicit set of Governmental Weights for Income classes,” 1968 , reprinted in Cost – Benefit Analyais, R. Layard, ed., Penguin, 1972.

10-    M.A. Zapra “ Projet Evaluation in Islamic Pressented Perspective “ Paper to be presented to the follow – up Seminar on Fiscal and Monetary Economics of Islam, Islamabad, Pakistan , 1981.

تعليق على البحث السابق

د. حسين حسين شحاده

مقدمة:

يهدف هذا التعليق الى إظهار الجوانب العامة التي أثارها البحث وتستحق مزيداً من الدراسة والتحليل حتى يستفيد منها الباحثون المهتمون بهذا المجال وكذلك الإشارة الى النقاط التي كانت تتطلب مزيداً من التفصيل ويجب ان يفرد لها بحوثاً متخصصة .. هذا بالإضافة الى عرض أهم النتائج التي توصل اليها البحث ودورها في تنمية الدراسة في مجال الفكر الاقتصادي الإسلامي في المستقبل.

موضوع البحث:

يتعلق البحث بوضع إطار للقيم والمعايير الإسلامية في تقويم المشروعات الاستثمارية فبالإضافة الى ما ذكره الباحث حول أهمية موضوع البحث، اعتقد ان هذا الموضوع يمثل أهم وأخطر القرارات الإدارية التي تتخذ في الوحدات الاقتصادية التي تسير على المنهج الإسلامي سواء أكانت شركات استثمار أو مصاريف أو هيئات تأمينية. وأن الخطأ في مثل هذه القرارات قد يقود إلى نتائج خطيرة، ليس على الوحدة الاقتصادية وحدها بل على الإسلام.  فمن خلال الدراسة الميدانية تبين أنه أحياناً وجد لدى بعض المصارف الإسلامية فائضاً نقدياً يستثمر بطريقة غير مرضية، وقد أثار ذلك شبهات حول سمعة تلك المصارف… كما تبين أيضاً ان بعض شركات التأمين التعاوني الإسلامي تقوم بإيداع فائض الاشتراكات لدى المصارف الإسلامية – ودائع استثمارية … وكان من الممكن أن نستثمر مباشرة في مشروعات استثمارية تعود بالنفع الكثير على المؤمن لهم وعلى المجتمع… وقد يبدو لنا أن السبب في ذلك يرجع إلى عدم وجود قسم متخصص في مجال تقويم المشروعات الاستثمارية.

وبهذا تظهر أهمية وجود نماذج تتضمن المعايير التي تحكم تقويم المشروعات الاستثمارية تساعد الوحدات الاقتصادية الإسلامية في أداء عملها ومن ناحية أخرى تعتبر أداة قياس في تقويم أدائها.

منهج البحث:

لقد انتهج الباحث منهجين هما:

–                     المنهج الاستنباطي

–                     والمنهج الرياضي

ويعتبر الباحث من رواد تطبيق المنهج الرياضي في مجال الفكر الاقتصادي الإسلامي وبذلك يكون قد فتح مجالاً جديداً للبحث وذلل الكثير من الصعاب أمام الباحثين المرتقبين.

ملخص لنقاط البحث والتعليق عليها:

لقد قسم الباحث البحث الى خمس نقاط على النحو التالي:

النقطة الأولى: تقويم الطرق التقليدية لتقويم المشروعات الاستثمارية.

النقطة الثانية: المعايير الإسلامية لاختيار المشروعات الاستثمارية.

النقطة الثالثة: بناء نموذج رياضي للمعايير الإسلامية لاختيار المشروعات الاستثمارية.

النقطة الرابعة: كيفية استخدام النموذج المقترح في تقويم المشروعات الإسلامية.

النقطة الخامسة: النواحي التطبيقية للنموذج المقترح في مجال المصارف الإسلامية.

وفيما يلي عرض موجز لأهم ما ورد بكل نقطة والتعليق

أولاً: تقويم الطرق التقليدية لتقويم المشروعات الاستثمارية:

لقد ناقش الباحث بعض طرق تقويم المشروعات الاستثمارية التي جرى العرف على تطبيقها في مجال المحاسبة، وأعطى تركيزاً على:

أ – طريقة التيار النقدي المحسوم.

ب-طريقة فترة الاسترداد.

ولقد أوضح الباحث أهم جوانب القصور والتي تتمثل في التركيز على معيار الكفاية الإنتاجية للمشروع فقط كما عرض اهم الاتجاهات الحديثة في علاج ذلك… والتي من أهمها الاخذ في الاعتبار القيم الاجتماعية.

واعتقد أنه كان من الممكن التركيز على عيوب طرق التيار النقدي المحسوم والتي تعتمد على معدل الفائدة الربوية وذلك لإظهار اعجاز الإسلام عندما حرم النظام الربوي ومايتبنى عليه من نظم فرعية. وأنه يمكن استخدام متوسط أرباح المضاربات الإسلامية كبديل لنظام الفائدة الربوية كمعدل خصم.

ثانيا: المعايير الإسلامية لاختيار المشروعات الاستثمارية:

لقد استنبط الباحث من مصادر الفقه الإسلامي مجموعة من المعايير التي يمكن أن تستخدم في مجال المفاضلة بين المشروعات الاستثمارية المختلفة والتي تساعد الوحدات الاقتصادية الإسلامية في القرارات الاستثمارية. وهذه المعايير هي:

1-                اختيار طيبات المشروع وفق الأولويات الإسلامية.

2-                توليد رزق لأكبر عدد من الاحياء.

3-                مكافحة الفقر وتحسين توزيع الدخل والثروة.

4-                حفظ المال وتنمينه.

5-                رعاية مصالح الاحياء من بعدنا.

وقد تثير هذه النقطة مجموعة من التساؤلات والاستفسارات نأمل أن يغطيها الباحث في بحوث أخرى … من بين هذه التساؤلات والاستفسارات ما يلي:

–                     هل ما ذكره الباحث يمثل كل المعايير الإسلامية أم يحتمل معايير أخرى قد تظهر فيما بعد …؟ وهل تعتبر هذه المعايير ثابتة أم تتغير حسب طبيعة المشروع الاستثماري؟

–                     هل طبقت هذه المعايير أو بعضها في صدر الدولة الإسلامية وكيف كانت تختار المشروعات الاقتصادية حينئذ؟

–                     لقد أشار ابن خلدون في مؤلفاته الى العلاقة بين بعد الاسفار والمخاطرة والاسفار واختيار الرحلات التجارية عند العرب وفي صدر الإسلام فبما قد وضع معايير إسلامية أخرى في هذا الصدد.

ثالثاَ: بناء نموذج رياضي للمعايير الإسلامية لاختيار المشروعات الاستثمارية:

لقد أعد الباحث نموذجاً رياضياً يمثل المعايير السابقة التي تستخدم في اختيار المشروعات الاستثمارية .. فلقد تمكن من دارسة العلاقات السببية بين المعايير وعبر عن ذلك رياضياً.. وهذا أمر هام وضروري في حالة القرارات الاستثمارية – فعن طريق تشغيل النموذج الرياضي تحت ظروف احتمالية بديلة يمكن استقراء مجموعة من المعلومات تساعد في اتخاذ القرارات الاستثمارية في ضوء البدائل الأخرى وهذا أصبح ممكناً في ظل استخدام إمكانيات الحاسبات الالكترونية.

ولقد آثار الباحث المشاكل التي تظهر عند بناء مثل هذا النموذج ومن بينها مشكلة اختلاف الآراء الفقهية عند تحديد المعاملات… ومما لا شك فيه ان اتساع الجفوة بين تلك الآراء يؤثر بشكل ملحوظ على النتائج والتي على أساسها يتخذ القرار الاستثماري… اما في حالة تقارب الآراء فتقل خطورة المشكلة ولم يركز الباحث على هذه المشاكل ….

وأعتقد أنه في كل الحالات يمكن الاستعانة بأساليب المحاكاة وقياس الحساسية في معرفة أثر التغير والاختلاف في الآراء على مخرجات على مخرجات النموذج حتى يتسنى معرفة أهم العناصر أو أهم العوامل أثراً على القرار الاستثماري حتى نوجه اليه الدراسة والتركيز. وأعتقد أن الباحث يمكن أن يقوم بذلك في مراحل تالية للبحث. ولاسيما في مجال التطبيق العلمي في المصارف الإسلامية وهيئات التأمين التعاوني الإسلامي وفي شركات الاستثمار الإسلامية….

ومن ناحية أخرى يعتبر تطبيق المنهج الرياضي في مجال الاقتصاد الإسلامي بداية مرحلة من الانتقال من العموميات الى مرحلة التعمق والتفصيل والتطبيق العلمي، ونأمل ان يحذو بقية الباحثين حذو الباحث.

رابعاً: طرق استخدام النموذج المقترح لاختيار المشروعات الاستثمارية:

لقد ركز الأخ الباحث في هذا الجزء على كيفية استدام النموذج الرياضي المقترح والذي أطلق عليه اسم ” دالة المصلحة” في تقويم المشروعات الاستثمارية، واقترح طريقتين هما :

أ – طريقة النقط أو العلامات:

وتتمثل في إعطاء كل مشروع استثماري عدداً معينا من النقط بين صفر و100 على حسب النقط المعطاة لكل معيار من المعايير السابقة. ويتم الاختيار على النحو التالي:

أ‌-                   حالة اختيار مشروع واحد من بين عدة مشروعات:

–                     يتم اختيار المشروع الأعلى نقطاً.

ب‌-              حالة اختيار عدد من المشروعات من بين عدد كبير من المشروعات.

–                     ترتيب المشروعات بحسب نسبة علامة المشروع

القيمة الحالية لتكاليفه في ضوء الميزانية الاستثمارية المحددة.

ج-حالتي قبول أو رفض مشروع واحد.

يلزم أولاً تحديد الحد الأدنى للعلامة المرغوب فيها يطلق عليها علامة النجاح أو القبول. ويقبل المشروع إذا بلغت علامته مستوى إذا بلغت علامته مستوى النجاح وفي هذه الحالة تظهر مشكلة تحديد علامة النجاح فلابد من وجود أسس موضوعية يتم على ضوئها تحديد تلك العلامة.

لقد أشار الباحث فعلاً الى المشاكل العملية التي قد تظهر عند التطبيق ولكنه لم يتعرض لها بالتحليل… وربما سوف يناقشها في بحث آخر….

1-                طريقة حساب القيمة الحالية الإسلامية للمشروع:

تعتمد هذه الطريقة على استخدام معدل الربح أو العائد الداخلي لاستثمار بديل حلال في حساب صافي القيمة الحالية للمشروع الاستثماري… ثم استخدام وحدة حسابية لنثمن بها كل هدف من اهداف دالة المصلحة … ويتطلب ذلك ترجمة أهداف تلك الدالة الى وحدات نقدية باستخدام الوحدة الحسابية المختارة.

ويظهر في هذا الصدد المشاكل التالية:

1-                مشكلة اختيار الأسعار المحاسبية.

2-                مشكلة تحديد العائد الداخلي لاستثمار بديل حلال وهاتين المشكلتين لم يناقشهما الباحث تفصيلاً، ربما يرجع ذلك إلى أنه قد أعد بحثاً من قبل… أو لسبب ضيق الوقت والمكان، وعلى كل فان هذه المشاكل هي أساس هذه الطريقة وتحتاج الى مزيد من التحليل والتوضيح الرقمي من خلال أمثلة افتراضية … تحت حالات مختلفة بديلة.

خامسا: النواحي التطبيقية المقترحة ودور المصارف الإسلامية:

أشار الباحث في الجزء الأخير من البحث الى تطبيق النموذج المقترح ف مجال اختيار المشروعات الاستثمارية في الوحدات الاقتصادية الإسلامية مثل شركات الاستثمار، المصارف الإسلامية، وهيئات وشركات التأمين الإسلامي… وغير ذلك … وقد أوضح أن هذا يتطلب تعاوناً بين مراكز البحث العلمي الإسلامية والوحدات الاقتصادية الإسلامية في اللاد الإسلامية وفي الجامعات.

كما يقترح الباحث اعداد دليل إسلامي لتقويم المشروعات الاستثمارية ليكون مرجعا ومرشداً في هذا المجال.

واعتقد ان الباحث قد أثار مسألة في منتهى الأهمية ليس فقط في مجال تقويم المشروعات بل في النواحي المالية والمحاسبية الأخرى… حيث أن هناك حاجة الى إطار عام يتضمن المعايير والقواعد الإسلامية التي نلتزم بها الوحدات الاقتصادية الإسلامية ويكون أداة قياس لمدى نجاحها في تحقيق أهدافها الاجتماعية والإسلامية .. وتكون مرجعاً لهيئة الرقابة الشرعية وذلك لسد الذرائع أمام الذين يحاولون النيل من رسالة الوحدات الاقتصادية الإسلامية بعد نجاحها.

تعليق أخير:

مما لا شك فيه أن هذا البحث الطيب، الغني بالأفكار الجديدة، قد يثير العديد من النقاط والتي تحتاج الى مزيد من الاهتمام والبحث من بينها ما يلي:

1-   ضرورة الانتقال من العموميات والاساسيات في البحث والكتابة في الاقتصاد الإسلامي الى التركيز على التفضيل والعمق.

2-   ضرورة الاهتمام بالمنهج العلمي والرياضي في مجال البحث في الفكر الاقتصادي الإسلامي حتى يتيح الفرصة أمام التطبيق.

3-   ضرورة الاهتمام بمشاكل التطبيق العلمي لجوانب الاقتصاد الإسلامي.. وأغني أن يكون للبحوث شق ميداني وهذا أصبح ممكناً بعد إنشاء ونجاح الكثير من الوحدات الاقتصادية الإسلامية.

4-    أهمية وجود دليل يتضمن المعايير والقواعد التي يجب أن نلتزم بها الوحدات الاقتصادية في مجال الأنشطة المختلفة وتكون هدفاً وأداة قياس لكفاءتها في تحقيق أهدافها.

5-    أهمية التنسيق والتعاون بين المؤسسات العلمية المهتمة بفروع الاقتصاد الإسلامي وبين الوحدات الاقتصادية الإسلامية حتى يمكن مزج النظر مع التطبيق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر